الأعلانـــات
تحديات البناء الاستراتيجي للمصالح الوطنية العراقية
تحديات البناء الاستراتيجي  للمصالح الوطنية العراقية

م.م شيماء محمد ناصر
كلية العلوم السياسية / جامعة بغداد


 اولاً : إدارة المصالح الاستراتيجية  
      لكل دولة قومية مجموعة مصالح، والوسيلة التي تمكنها من تحقيق هذه المصلحة وبلوغ اهدافها هي الاستراتيجية، لكون غايتها ضمان مصالح الدولة وتعزيزها بطريقة متناغمة ومثالية، وفي هذا السياق عرفت الاستراتيجية على أنها: "تعريف الدولة لمصالحها القومية، وتحديد الاخطار التي تهدد تلك المصالح وتخصيص الموارد العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية للدفاع عن مصالح الدولة". 
    إذ تعرف المصلحة الوطنية على أنها: الخطوة الاولى في صياغة الاستراتيجية الشاملة للدولة، الحاجات والطموحات المتوافق عليها وطنياً، قيمة عليا، لاتقبل المساواة ولايمكن التنازل عنها، تسعى الدولة لتحقيقها والحفاظ عليها، ومن أجلها تدخل في حرب، وباستخدام مختلف انواع القوة إن دعت الضرورة.
    ومن أهم المعطيات التي يجب ان يتعامل معها مخططي الاستراتيجية بعد تحليل البيئة الاستراتيجية جدولة إولويات المصالح وإدارتها من خلال الفرص بحيث تكون قادرة على معادلة التهديدات أو التحديات، والاولويات من الناحية الاستراتيجية تتوزع وفقاً للمصالح الحيوية التي تسعى الدول للقيام بها الى:    
1- الأمن : وهي الدفاع عن أمن الدولة ومواطنيها ونظامها السياسي من  التهديدات الخارجية.
2-  الازدهار : وهي قدرة الدولة على تحقيق الرفاهية للمواطن العراقي، من خلال القضاء على الفقر والبطالة وتحسين  الدخل السنوي من خلال توفير فرص العمل والمشاريع الاستثمارية. 
3- نشر القيم : وهو يعبر عن قدرة العراق على توظيف المواقف التي يتبناها لنشر قيمه الفكرية، فالقيم عنواناً لسياسة الدولة الخارجية. 
4- الحفاظ على القيم : حماية المنظومة الفكرية للعراق من الغزو الثقافي والفكري الذي يستهدف القيم المثلى التي تتبناها الدولة والمجتمع . 
ثانياً: التحديات  
  يبدأ البناء الاستراتيجي بعد تجميع المعلومات والبينات وتقدير ما تفرضه البيئات المحلية والاقليمية والدولية والعالمية من تهديدات وما تقدمه من فرص، وتفرض ظروف البيئة الاستراتيجية العراقية كثيراً من التحديات التي تواجه عملية البناء الاستراتيجي لمصالحه، التي من أهمها:  
1- الدستور : هو اساس بناء الدولة، أقر دستور العراق عام 2005 ببنود وفقرات ما زالت مثيرة للجدل، كونه اوجد عراق مكونات لا عراق المواطنة، وهو مايعرف في العراق بـــــــ "المحاصصة أو الكوتا" تبدأ من ديباجة الدستور الاولى التي استبدلت عراق دول عربية والموجودة منذ العهد الملكي الى " العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب ..." .
  وقد وردت المصالح في الدستور بطريقة انشائية ، إذ نصت  المادة (8) منه على : "يرعى  العراق مبدأ حسن الجوار، ويلتزم عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، ويسعى لحل النزاعات بالوسائل السلمية، ويقيم علاقاته على اساس المصالح المشتركة والتعامل بالمثل، ويحترم التزاماته الدولية ".
رغم ان الدساتير بشكل عام لاتتضمن إشارات تفصيلية الى المصالح،  الا ان الظرف السياسي العراقي يتطلب الدقة في تعريف مصالحه، إذ ان الدقة تخدم أغراضاً متعددة منها توضيح نيات السياسة في مختلف المجالات، وتركيز  الاهتمام على العوامل الاستراتيجية المناسبة، وتمكين المعنين من صياغة استراتيجية أفضل والمساعدة في تحديد المسؤوليات، والسلطات، والمساءلة. 
2-  برنامج الحزب الفائز : اغلب البرامج الحكومية للحكومات المتعاقبة منذ عام 2003  إشارة الى المصالح بطريقة  الانشاء السياسي،  وتعرضت الى الانتقاد  بسبب التلكؤ في اداءها مما كان مدعاة لفقدان الثقة ما بين الحكومة والشعب، وهي عبارة عن رؤى مرحلية لمدة اربع سنوات، وتتعرض للتغير والتبديل مع كل حكومة .
3-   تصريحات المسؤولين السياسين:  يعاني العراق من تضارب الرؤى السياسية، التي تمثل وجهات النظر المختلفة للقوى السياسية العراقية المشاركة في السلطة،  غياب وحدة الموقف على مختلف المستويات الرسمية وغير الرسمية، و تشتت الآراء او التوجهات، بين الحكومة بصفتها تمثل الجهاز التنفيذي وبين القوى السياسية والبرلمانية، مما انعكس على قدرة الدولة في  تحديد اولويات سياستها الخارجية والاتفاق عليها بين جميع القوى، وتبنيها كمنطلق لاستراتيجية ثابتة تؤمن بها كل الاطراف السياسية العراقية.
4-  موارد الدولة المتاحة: من المعروف أن أي خطة استراتيجية، مهما تكن طموحاتها وحسن صياغتها، فإنها تصطدم بعقبة الموارد التي يتعين على المخطط الاستراتيجي التفكير فيها من البداية، يعاني العراق من سوء ادارة التوظيف الاستراتيجي لمكامن قوته الجيوبولتيكية في خدمة مصالحه وتوجهاته الخارجية ، إذ تحولت الثروات الطبيعية كما يطلق عليها من قبل بعض الباحثين في الاقتصاد السياسي بـ ( لعنة الاقتصادي الريعي) ، لكونه يغذي انعدام الكفاءة، ويزيد من مركزية السلطة، وبناء رأسمالية اتباع واقارب، ويحفز على زيادة الانفاق الحكومي بلا حساب، ويشكل النفط أكثر من 90% من اجمالي الصادرات العراقية، والاعتماد عليه كمصدر وحيد للتنمية واهمال باقي القطاعات التي يمكن ان تدعم الناتج المحلي ، وايجاد فرص اخرى باستثمار العائدات النفطية في مشاريع مستدامة، ورغم تأكيد أغلب البرامج الحكومية على تنويع الايرادات غير النفطية ، إلا انها لم تحقق نتائج ملموسة في هذا المجال .
5-  التحديات والتهديدات المحيطة بالعراق: يواجه العراق جملة من التحديات والتهديدات أهمها :
-   الارهاب : انقضى تنظيم داعش بعد الانتصارات التي حققتها القوات الامنية العراقية وخسارته الحرب في صيف 2017 ، لكن الاثار الاجتماعية والامنية التي خلفها مازالت تشكل خطراً على  الامن القومي العراقي، فوجود جيلاً من الارهابين او ما يطلق عليه في ادبيات تنظيم داعش الارهابي (جيل الخلافة) ، جيلاً تم تنشئته في البيئة القتالية العراقية، يشكلون خطراً حقيقياً لانهم يحملون افكار التنظيم والمهارات القتالية، فهنالك احتمالية تكرار سيناريو 2014  من هذا الجيل فضلاً عن الخلايا الارهابية النائمة التي لازالت ناشطة والتي تتخذ من الاطراف النائية في محافظات صلاح الدين ، واطراف محافظة كركوك ونينوى منطلقاً لعملياتها الارهابية، الهزائم التي تكبدها التنظيم الارهابي قدمت له حافزأ في  مراجعة استراتيجيات المواجهة مع القوات العراقية. 
- انتشار السلاح : يُعد انتشار السلاح بيد الفواعل من غير الدولة  (القوات اللا نظامية )  تهديداً لمنظومة الامن والاستقرار الاستراتيجي للعراق، فقد اصبح لهولاء الفواعل من القوات العسكرية ودوراً سياسياً وامنياً مؤثراً في القرار الاستراتيجي العراقي ، إذ تواجه الحكومة معضلة ضبط سلوك هذه القوات وحصر السلاح بيد الدولة  . 
-  تجارة المخدرات : استفحال ظاهرة المخدرات في العراق التي تشكل تهديداً للمصالح الامنية العراقية، آفة تفتك بالمجتمع العراقي وخاصة فئة الشباب، فزيادة هذه الظاهرة تأت من زيادة نسبة العاطلين عن العمل، إذ تصل نسبة التعاطي بين الشباب في المناطق الفقيرة الى 70% ، والعراق ليس مستهلكاً فقط وانما اصبح ممراً لعبور الكميات الكبيرة من المخدرات الى دول الخليج،  كما ان المخدرات ترتبط باشكال الجريمية المتعددة منها الارهاب ، وغسل الاموال، والفساد  . 
-  التغير المناخي : تهديداً وجودياً للعراق،  فبحسب التقرير السادس لتوقعات حالة البيئة العالمية لمنطقة غرب آسيا (GEO-6) صنف بالمرتبة الخامسة كونه من أكثر الدول المتضررة من أزمة التغييرات المناخية،  إذ تعرض البلاد في العقود الاخيرة الى الظواهر المناخية العنيفة مثل درجات الحرارة العالية، وعدم كفاية الامطار ونقص هطولها، والجفاف، وندرة المياه، وتكرار العواصف الرملية والترابية والفيضانات، يُعد انخفاض مناسيب المياه في نهري دجلة والفرات والبحيرات العراقية من ابرز آثار التغيرات المناخية في البلاد، لاسيما أن اغلب منابع الانهار خارج حدوده، ونسبة المياه المستخدمة التي مصدرها في دول الجوار (تركيا، إيران، سوريا) تصل الى نسبة (50%)  وللسياسات المتبعة من قبل هذه الدول في إدارة المياه الاثر السلبي على وصول كميات المياه الى العراق وبشكل خاص المنطقة الجنوبية .
ثالثاً: الفرص 
    البيئة العراقية تحتوي أضافة الى التحديات عدد من الفرص التي تعزز قدرة العراق في تحقيق مصالحه، وفي ضوء  ذلك نسلط الضوء على مشروع طريق التنمية الاستراتيجي والذي يعكس سعي الحكومة العراقية برئاسة السيد (محمد شياع السوداني) الى تنويع مسارات علاقاتها الاقليمية من جهة ، وتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية وامنية، وهو ما يتوافق مع البرنامج الحكومي الذي قدمه . 
 المكاسب 
   يتضمن المشروع مشاركة 10 دول إقليمية، وهي: السعودية وتركيا وسوريا والأردن والكويت والبحرين وقطر والإمارات والبحرين وإيران. وتُشكل الأهمية الاستراتيجية للمشروع: 
1- ربط موانئ العراق بتركيا: يتضمن المشروع خطاً برياً وآخر للسكك الحديدية، إذ يهدف المشروع إلى نقل البضائع من موانئ العراق على مياه الخليج العربي في البصرة إلى تركيا، مروراً بمحافظات البصرة ثم ذي قار والقادسية، وواسط ثم باتجاه العاصمة بغداد، ومنها إلى صلاح الدين وكركوك ونينوى وصولاً إلى المثلث العراقي التركي السوري من جهة منطقة فيشخابور ، فضلاً على أن المشروع سيتضمن بناء حوالي 15 محطة قطار على طول الطريق.
2- اختصار الوقت بنسبة 50%:  أن المشروع سيُسهم في اختصار الوقت الذي تستغرقه حركة النقل التجاري بين آسيا وأوروبا، إذ تُشير التقديرات إلى أن مدة شحن البضائع من ميناء شنغهاي الصيني إلى ميناء روتردام الهولندي تستغرق نحو 33 يوماً، في حين أنها ستستغرق 15 يوماً ، بما يعني تقليص زمن الرحلة بأكثر من 50.
3- تحقيق منافع اقتصادية كبيرة: تُشير التقديرات الرسمية العراقية إلى أن تكلفة المشروع قد تبلغ بحدود 17 مليار دولار، بحيث تكون ( 10 مليارات) منها لشراء قطارات كهربائية سريعة تنقل الحمولات في حوالي (16 ساعة) ، كما انه سيتم إنفاق المتبقي منها من أجل مد خطوط سكك الحديد بطول   1200 كم ، ومن المتوقع أن تصل الأرباح السنوية للمشروع حوالي  4.850 مليار دولار سنوياً، فضلاً عن توفيره لفرص عمل لقطاع عريض من الشباب قد تصل لقرابة 100 ألف فرصة عمل.
تحديات المشروع :
· التمويل : يعاني العراق من عجز مالي ومديونية تقدر بحوالي (100) ترليون دينار عراقي في ظل اكبر عجز مخطط لموازنة عام 2023 ( اكثر من 64 ترليون دينار) ، فضلاً عن تأثير الحرب الروسية – الاوكرانية على استقرار اسعار النفط العالمية، وارتفاع معدلات التضخم .
·  عدم وجود اجماع سياسي حول المشروع: هناك من ينظر الى المشروع لخدمة اطراف اقليمية ، وجهات تنظر اليه على انه رضوخ للإرادة الامريكية من أجل الابتعاد عن مبادرة الحزام والطريق الصينية ، فضلاً عن تغليب مصالح حزبية على المصلحة الوطنية. 
·  اعتراض دول اقليمية : هناك مخاطر جيوسياسية تهدد المشروع ، المشروع يرتكز على ميناء الفاو الكبير، وهو يعد تهديدا بخط عبادان الايراني وميناء بندر عباس، وعلى كل من ميناء جبل علي في دبي وميناء خالد في الشارقة، واحتمالية منافسته لطريق النقل في البحر الاحمر وقناة السويس.  
· احتمالية رفض كردستان العراق للمشروع: مدّ شبكة سكك حديدية بمسافة 4 كم  من خلال دهوك، وصولاً للحدود التركية، لما لهذا الأمر من تداعيات على معبر إبراهيم الخليل الحدودي، والذي يُعد البوابة الرئيسة بين إقليم كردستان وتركيا والدول الأوروبية، وما يُمثله من فوائد اقتصادية لصالح الإقليم.
التوصيات 
1-  مأسسة المصالح الوطنية في العراق من خلال وثائق سياسية موازية للدستور اصبح ضرورة وطنية من أجل حماية الدولة من الذين يُعلُون مصالحهم الخاصة على مصلحة الوطن، وتقدم دولة الامارات العربية تجربة وثيقة المباديء العشرة باعتبارها المسار الاستراتيجي والتي تعد مرجعاً للمؤسسات الاماراتية في  بناء اقتصاد مستدام، وتسخير الموارد لتكوين مجتمع اكثر ازدهاراً  وتطوير العلاقات الاقليمية والدولية. 
2-  تُعد البيئة الداخلية انعكاساً للسياسة الخارجية للدولة، وان القدرة على بناء سياسة خارجية متوازنة وغير متقاطعة في بيئتها الاقليمية والدولية، تحتاج الى إقامة علاقات خارجية متوازنة مع الدول المؤثرة في الشأن العراقي،  من أجل تعضيد المصالح الاستراتيجية العراقية لابد من اتخاذ موقف المتوازن مع القوى الاقليمية والدولية وعدم الاخلال في مصالح العراق الاستراتيجية الداخلية والخارجية من خلال الانضمام الى محور دون اخر، لذا يجب ان يكون القرار الخارجي العراقي يمثل المصلحة الوطنية العراقية لا مصلحة هويات فرعية. 
3-   الانتقال بخطوات نوعية بإتجاه مكافحة الارهاب من خلال نزع الفكر المتطرف والوقايه منه من خلال توفير  البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية، والتحول في الاستراتيجية العراقية الامنية نحو بناء السلام من خلال تضافر الجهود لكل من المؤسسات العسكرية ، والمؤسسات التربوية والتعليمية ومؤسسات المجتمع المدني  ورجال الدين والمؤسسات الاعلامية، وكافة مؤسسات الضبط الاجتماعي التي تلعب دوراً كبيراً في تشكل الوعي والرأي العام . 
4-  معضلة تأمين الحدود مع دول الجوار، العراق بحاجة الى تنسيق الجهود مع دول الجوار لمنع تهريب المخدرات عبر الحدود العراقية، فهي حرب طويلة ومفتوحة لان فيها مصالحاً وارباحاً، مما يستدعي وضع استراتيجيات ناجعة تكمن في تقسيم العمل الاستخباراتي على عدة قطاعات من اجل تحديد بؤر الاتجار ومكامن التوريد ومن ثم مكافحتها باسلوب احترافي.
5-  الاعتماد على استراتيجية التنويع الاقتصادي اصبح ضرورة ملحة لتحصين الاقتصاد العراقي من صدمات تقلبات اسعار النفط العالمية، ولكونها من الاستراتيجيات الفعالة في  تحقيق النمو الاقتصادي ، ورفع مساهمة القطاعات الانتاجية غير النفطية في الناتج المحلي العراقي ، ومعالجة الاختلالات الهيكيلية التي يعاني منها البلد . 
2023-12-01 05:12 PM2570