الأعلانـــات
المقالات
تجريم التحريض على العنف والكراهية المؤدي الى الارهاب ضرورة وطنية لبناء مجتمع ديمقراطي 
 
                                                                   الاستاذ الدكتور
                                                                          عمر جمعة عمران
                                                                        رئيس الجمعية العراقية  للعلوم السياسية

   ابتدأ يمكن القول أن المجتمعات الإنسانية وبغض النظر عن تاريخ الصراعات القائمة داخل المجتمع الواحد أو بين المجتمعات، قد جبلت على التواصل والتعايش من خلال عدة قواسم مشتركة وفي العديد من المجالات سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية او دينية ، وذلك بهدف تحقيق غايات وجودها ورفاهيتها، لذلك فأن جميع المجتمعات الانسانية دأبت في البحث عن كل المصادر التي تمثل نتاجات لذلك التعايش وتحددها من خلال إيجاد نقاط التقاء لتكون منطلقا لإرساء دعائم التعايش مع الآخرين . اذ يضمن تفعيل اليات التعايش السلمي للحد من الصراع أو ترويض الخلافات والنزاعات ، بلوغ تلك الغاية بوصفها عملية تتناول السلوك والعلاقات الاجتماعية القائمة وتستهدف كذلك الموائمة والتوافق بين الافراد وبين الجماعات والبيئة التي يعيشون فيها، وعادة تفعل تلك الاليات من خلال وسائل عدة تساهم في اتمام عملية التكيف الاجتماعي، ومنها ارغام الافراد على التكيف بمستلزمات قانونية لتغيير سلوكهم وللتلائم مع التغيرات الجديدة ،ومنها مستلزمات سياسية وفكرية للأقناع والتوعية ،واخيرا مستلزمات اقتصادية وثقافية وتربوية للتوافق او التوفيق بينهم.
   وبالنسبة للعراق فقد شهد خلال صيرورته السابقة حكماً تسلطياً وورث وضعاً شائكاً من الحروب المدمرة والعقوبات القاسية وسوء الحكم والادارة وحكم الاسرة والفساد ، اذ ادت تلك الظروف الى استنزاف الموارد واختفاء المجتمع المدني واضفاء الطابع الشخصي على مؤسسات السلطة وتم اقصاء المواطنة وحل محلهما التمييز والاستبداد ، مما خلق بنية اجتماعية وسياسية تعاني مأزق التعايش الهش، استمرت في انعكاساتها على الواقع المجتمعي اليوم ، فبالرغم من مؤشرات وجود تعايش في اطاره العام إلا أنه في الوقت نفسه يؤشر عدم وجود تعايش ثقافي- اجتماعي - سياسي يقبل الآخر المختلف، لذا اتسم العمل السياسي ومنطق التعددية السياسية في العراق بالصراع بدلاً من التنافس وبالتنافر بدلاً من التجاذب وبالتنابذ بدلاً من الانسجام وبالانفعال بدلاً من التفاعل وبالتخاصم بدلاً من التصالح، وبالتوتر بدلاً من التهدئة وقد استغلت التنظيمات الأرهابية او المتطرفة التي ظهرت بعد التغيير عام 2003م تلك القضايا، فحولت الصراع السياسي وغير السياسي إلى صراعات الفتنة الاجتماعية لتأجيجها واتخاذها ستاراً لتغطية أعمالها وأهدافها ، مما أخل بالسلم الاجتماعي وأضعف الشعور بالوحدة الوطنية والتعايش الاجتماعي فترة محددة ، تفاقمت خلالها العمليات الأرهابية وتعاظمت المعاناة الإنسانية جراء نتائج تلك الأعمال التي أتسمت بنتائجها الإجرامية وأنعكاسها الوخيم على حياة الافراد واتساع رقعة المساحة التي تمارس فيها التنظيمات المتطرفة والمجموعات الارهابية أفعالها في ارتكاب عمليات القتل غير المحدد والطائش ، ولا سيما في البيئة التي تجدها صالحة ليتغلغل فيها ومنها. بعد انحسار تلك التنظيمات نتيجة الانتصارات العسكرية والامنية ولاسيما بعد عام 2017م والمتمثل بالقضاء على تنظيم داعش الارهابي وهو انتصار تاريخي ولكنه أولي قياسا بالمهمات الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية لمرحلة ما بعد داعش وما رافقها من احداث ومشاهد تحمل رؤى تقويمية للمستقبل ومتطلباته باعتماد قيم متفق عليها في كل الشؤون التي تتصل بهيكلية الدولة والمجتمع، وترسيخ حقوق المواطنة وواجباتها التي تشكل جوهر العملية وروحها للتحول الى تقاليد راسخة في الحياة السياسية بكل فاعلياتها .
    يوصلنا ما سبق، وتحديدا الجزء الاخير إلى الفكرة الأساسية التي نحاول من عرضها بوضوح وإيجاز في هذه المقالة وهي (ان التطرف المؤدي الى الارهاب لا يولد اعتباطا ولا يتراكم جزافا وإنما يحكمه مجموعة معقدة ومتشابكة من الأسباب والشروط والظروف ويتداخل فيها الذاتي والموضوعي، الداخلي والخارجي ،السياسي والاقتصادي الثقافي والاجتماعي وبالتالي فأن تشخيص الأسس التي يمكن من خلالها القضاء على أبعاد هذه الظاهرة المدمرة لبنية المجتمع تحتاج الى توظيف الجهد الإنساني فكريا وثقافيا وسياسيا وقانونيا ليتولى التصدي لهذه الظاهرة).
      وتبرز مسائل متعددة مثل ( التكفير، الكراهية ، التحريض، العنف ) من اهم القضايا المرتبطة بظاهرة الارهاب، نظرا لما لها من اثار إقصائية من حيث المبدأ، تتمثل في رفض الآخر وإلغائه، وعدم السماع له مطلقا وكذلك اثار تحريضية من الناحية العملية قد تصل إلى حد القتل والتهديد به ، ولاسيما مايتعلق بخطاب التطرف الديني الذي يبني استراتيجيته على مصطلحات التكفير والإقصاء، والجماعات الإرهابية يرتكز سلوكها على مثل هذه الإشارات من تكفير وكراهية وتحريض على العنف وغيره لتبرر بها جرائمها في حق الأفراد أو المجتمع.وهذا ما يتعارض مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تشكل عمود السياسة في المجتمعات التي تسعى للوصول الى الديمقراطية الناضجة، والتي تفرض علينا تقبل الآخر والإصغاء إليه.
وفي ضوء الارتكاز على ظاهرة التحريض على العنف والتكفير المنطلقة من أشخاص او حركات مدنية كانت ام دينية وتوظيفها وفق إطار سياسي ، فأنها اخذت تشكل أساس والية تفكيك البناء الاجتماعي للمجتمعات المتسمة بالتنوع او المتجانسة على حد سواء ، وبالتالي فان مبداً قانونية التجريم يعد هو المبدأ الاساس الواجب على الحكومات تطبيقه حماية لمصلحة الافراد عن طريق تعريفه بما هو محظور عليه ماهو جائز له فعله، وهو ما يحقق الطمأنينة للأفراد ويمكن السلطات القضائية من تطبيقه بوجود النص الذي يجرم الفعل او السلوك الذي يصدر عن الفرد فضلاً عن حماية المصلحة العامة وذلك من خلال حصر وظيفة التجريم والعقاب بالشرع وحدة عن طريق الشريعة التي يصدرها لما ينطوي على هذه الظاهرة من ابعاد اجتماعية ودينية واخلاقية وسياسية، ولهذا تضمنت أكثر دساتير وقوانين الدول الحديثة على النص صراحته لمنع وتجريم التكفير او التحريض على العنف واشاعة لغة الكراهية والتي تصل الى (40) دولة من جميع القارات .
لقد اصبح التحريض على العنف والكراهية والتكفير مسائل ذات ابعاد سياسية مؤثرة في عدة مجالات وان واجب الدولة ومؤسساتها هو التدخل لحسم كل ما يعترض استقرار المجتمع وبالوسائل كافة، مما يتطلب معالجة تشريعية تجرم تلك الافعال من اجل الوصول الى حالة من التعايش السلمي وهو ما يعكس حجم الظاهرة والخصوصية الاجتماعية والسياسية وما تفرضه تلك الخصوصية من تركيز على جوانب معينة وهذا الامر يتطلب العديد من الاجراءات والتي هي مجموعة وسائل واليات ( قانونية – سياسية ، واجتماعية – ثقافية ) تهدف الى منع خطوط الامتداد من التكفير والتحريض الديني الى السياسي والثقافي والاجتماعي .
ويمكن ان نسجل اهم المقترحات التي تمثل شروط مشروطة في وجودها وفاعليتها وهي قد تمثل متطلبات قادرة على حسم كل ما يعترض استقرار المجتمع والتصدي لظاهرة الاهاب والحفاظ على التماسك الاجتماعي وتتمثل تلك المقترحات بمايلي:
1. على الصعيد الدستوري ينبغي تفعيل تطبيق النصوص الدستورية والقانونية الخاصة بجرائم الكراهية لاسيما وأن الدستور العراقي جاء في بعض مواده بمبادئ تحظر ثقافة الكراهية بشكل عام وخاص معا مثل المواد ( 2 / 3 / 7 )  ، اذا وضعت هذه المواد الدستورية الاطار العام لتجريم تلك السلوكيات بحيث ان المشرع يستند الى نص دستوري في تجريم تلك الحالات مما يجعل النص العقابي فاعلا وله أثر كبير في تحقيق الامن الاجتماعي فضلا انها تنص صراحة على دور الدولة والزامها بمحاربة الارهاب بجميع اشكاله مستندا في ذلك الى (المادة 7 / ثانيا). ومما لا شك فيه مواجهة الارهاب يكون بمختلف الوسائل القانونيه وغير القانونية .
2. على الصعيد القانوني نجد ان المشرع العراقي قد عالج في قانون العقوبات انماط اجرامية وبدرجات متفاوته من الجسامة ولاسيما المواد (195 /200/201/202/ 204/208/209/372) والتي تقع تحت وصف جرائم الكراهية والتحريض على العنف ولكن في ظل الظروف الحالية وبغية اعادة تشكيل السلوك المجتمعي بصور واشكال تخالف ما كرسه النظام السابق قبل عام 2003م من ترسيخ لثقافة الحقد والكراهية في المجتمع ، لذلك من الضروري تعديل نصوص قانون العقوبات وجعلها تنص صراحة على معالجة ثقافة الكراهية وردع اي شخص او جهة او مؤسسة تروج وتنشر ثقافة الكراهية والتحريض على العنف وجعلها ضمن الجرائم الاجتماعية لاحلال ثقافة التسامح والحوار ومبادى حقوق الانسان ونبذ التعصب والتطرف ومحاربة الاهاب .وتتمحور المعالجة القانونية وفق احد الاتجاهين التالية:
       الاول : إصدار قانون خاص ينص على هذه الجرائم محدداً صورها والعقوبة لكل منها.
      والثاني: النص على جرائم الكراهية كجريمة قائمة بذاتها ضمن قانون العقوبات مع تشديد العقوبة 
3. وعلى الصعيد المؤسسي التنظيمي ينبغـي أن تتخـذ الـدولة خطـوات لبنـاء القـدرة علـى مواجهـة التحـريض علـى العنـف حتى تتمتـع بالقـدرة علـى التصـدي لمصـادر التـوتر والتخفيـف مـن حـدتها، وبنـاء مجتمع يقبـل التنـوع وتتعايش داخله جماعات مختلفة في كنف السلام. وكـذلك ينبغي اتخـاذ قـرارات بصـورة مسـبقة بشـأن إدارة المـوارد البشـرية والماليـة، والـوعي بمجموعـة الاسـتجابات التقنية واللوجستية اللازمة للتقليــل مــن تــأثير التحــريض والاستجابة المناسبة لأي أزمـة تـنجم عـن أعمـال التحـريض علـى العنـف.
4. وعلى الصعيد التنظيمي ضرورة تنسيق الجهود بين المؤسسات الحكومية والتنظيمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني بخصوص آليات التعامل مع العنف المدفوع بالتحيز والكراهية . ونعـني في هذا السياق تعزيز قدرة الأحزاب السياسية على الــتأثير في أعضـائها، وتشـجيع التسـامح واحتـرام التنوع فضلا عن تعزيز استخدام خطـاب إيجـابي وتجنـب الخطـاب التمييـزي. وينبغـي أن تتخـذ الأحـزاب السياسـية تـدابير تأديبيـة صـارمة ضـد أعضـاء الأحـزاب السياسـية الـذين يشـجعون التحـريض علـى العنـف الـذي يمكـن أن يفضـي إلى ارتكـاب جـرائم .
5. اما على الصعيد الثقافي وفي ظل العنف الذي راكمته الأعمال الإرهابية يبرز دور القادة الدينيين والمؤسسات الدينية في تبني مقاربة لمنع التحريض الذي من شأنه أن يؤدي إلى العنف وإنتاج خطابات بديلة لخطابات الكراهية والعنف من اجل رفد ثقافة التسامح والمحبة والتكافل كما ينبغي على رجال دين وضع اسس للتعامل الاجتماعي والاخلاقي بما يحفظ المجتمع من الصراع والعنف.
6. وفي هذا الصدد لابد من الاشارة الى المشروع الوطني لمرحلة ما بعد القضاء داعش الارهابي والذي طرحته المرجعية الدينية والمتمثلة بالسيد السيستاني ، والذي يقوم على عدة اسس وطنية تتجاوز الفساد والمحاصصة السياسية والتهميش، ومطالبة الجميع بأن يعوا أن استخدام العنف والشحذ الطائفي المناطقي في التنافس السياسي وغير السياسي لتحقيق بعض المكاسب لن يوصل إلى نتيجة غير المزيد من الدماء وتدمير البلاد وتوسيع التدخلات الاقليمية والدولية في شؤونها، ولن يكون هناك طرف رابح بل سيخسر الجميع .. والعمل وفق مبدأ أن جميع المواطنين من مختلف المكونات القومية والمذهبية والدينية متساوون في الحقوق والواجبات ولا ميزة لاحد على آخر ، فتطبيق هذا المبدأ بصرامة تامة وفقًا لما يقرره القانون كفيل بحل الكثير من المشاكل واستعادة الثقة المفقودة بالحكومة ومؤسساتها.
7. وفي المجال الاعلامي ينبغـي أن تنظم الـدولة  البيئـة القانونيـة والاجتماعيـة الـتي توازن بين الالتزام بحرية عمل وسائل الإعلام المختلفة من أجل إنتاج محتوياتها وتعميمها وفق معايير أخلاقية لمضمون وسائل الإعلام المتنوعة والتعامل بحزم أزاء وسائل الاعلام بمختلف اشكالها التي تدعم وتروج لثقافة الكراهية . ففي ظل الانفتاح الإعلامي، قد تغيب الحدود ويصبح خطاب الكراهية وسيلة لجذب الجمهور إلى هذه الوسائل، ما قد يجعل بعضها ينجر إلى هذا الخطاب.
8. ومن اجل رفد ثقافة التسامح والمحبة والتكافل فمن الضروري العمل على اقرار مناهج دراسية خاصة بذلك وتبنيها في المؤسسات التربوية في مراحلها كافة، بوصفها اهم روافد التنشئة الاجتماعية
2023-11-17 02:29 AM2303