الأعلانـــات
اسس التحليل السياسي وابعاده في نظرية النظم السياسية
اسس التحليل السياسي وابعاده في نظرية النظم السياسية
(دراسة في اسهامات الانثروبولوجيا السياسية) 

 
 أ.د. عمر جمعة عمران 
استاذ النظم السياسية / جامعة بغداد
رئيس الجمعية العراقية للعلوم السياسية

المستخلص
الدراسة هي محاولة لبيان الاسس المنهجية للتحليل السياسي في نظرية النظم السياسية وتفسير جوانب من حركتها واشكالياتها ، من خلال الاستعانة بالجهود العلمية والاسس النظرية للانثروبوجيا السياسية في دراساتها المتعلقة بالمشاكل التي تواجهها المجتمعات ضمن سياق تطورها السياسي ،لاسيما وان القضايا التي تبحثها الانثروبوجيا السياسية قد فرضت نفسها على مجمل النظم السياسية بغض النظر عن درجة تطورها الاقتصادي والاجتماعي فكل مجتمع يواجه هذه القضايا باشكال مختلفة وفقا لظروفه وثقافته.
المقدمة
يستند علم السياسة على دراسة المبادئ والنشاطات التي تتعلق بتنظم العلاقة داخل المجتمع السياسي وفي علاقته بالمجتمعات الاخرى ، فهو نشاط انساني يعنى بتنظيم المجتمع وتحقيق وحدته واستقراره، لذلك يعد النظام الشرط الاساس لاحتواء النشاطات المتداخلة والمتفاعلة من اجل تماسك المجتمع السياسي وديمومته ، بمعنى ان وظيفة النظام السياسي هي ادارة موارد المجتمع استناداً إلى سلطة مخوله له لتحقيق الصالح العام عن طريق سن وتفعيل السياسات، ووفق هذه الرؤية اصبحت السياسة نشاطاً ضرورياً لازدهار المجتمع وتعزيز وجود الانسان كونها تتبع خواص الانسان الاجتماعي. ان الظاهرة السياسية تتعامل مع الظاهرة الاجتماعية، والتعامل مع الظاهرة الاجتماعية  يعني تعامل مع سنن الواقع الاجتماعي بكل تفاصيله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبذلك فان التحليل السياسي يستهدف الوصول إلى فهم وإدراك أفضل خيارات التعامل مع الوقائع والظواهر والأحداث المتصلة بالعالم الذي يعيش فيه الأفراد ويتعاملون ويتأثرون معه في أي شكل من أشكال التعامل والتفاعل السياسي، فالدولة والقدرة والسلطة والتوزيع السلطوي للقيم عوامل مرتبطة بوجود الانسان وهو محورها جميعا. ومن هنا فان غاية الدراسة تتعلق بمحاولة بيان الاسس المنهجية للتحليل السياسي في النظم السياسية وتفسير جوانب من حركته واشكالياته ،من خلال الاستعانة بالجهود العلمية والاسس النظرية للانثروبوجيا السياسية في دراساتها المتعلقة بالمشاكل التي تواجهها المجتمعات ضمن سياق تطورها السياسي ،لاسيما وان القضايا التي تبحثها الانثروبوجيا السياسية قد اخذت تفرض نفسها على مجمل تفاعلات النظم السياسية بغض النظر عن درجة تطورها الاقتصادي والاجتماعي فكل مجتمع يواجه هذه القضايا باشكال مختلفة وفقا لظروفه وثقافته. فقد غدا التحليل السياسي موضوع دراسة علمية دقيقة ترتكز على منهجية تطورت تاريخيا واخذت تخضع لقوانين ونماذج معرفية وعلمية غايتها اكتشاف الحقائق والتنبؤ بمستقبلها .كما ان ارتباط التحليل السياسي بالمنهج العلمي التجريبي وتغير مركز الاهتمام ومحور الدراسات السياسية تبعا لتغير مناهج التحليل ، لم يغير علاقة السلطة بالبنى الاساسية التي تقدم لها ركيزتها الاولى وبنماذج التدرج الاجتماعي التي تجعل هذه العلاقة ضرورية لمختلف النظم السياسية ، بل فرضت نفسها في التحليل السياسي لاكتشاف ودراسة مختلف الممارسات التي تحكم عملية التفاعل داخل المجتمع وهذا ما اعطى قيمة للانثروبولوجيا في المجال السياسي بوصفها تعنى بدراسة النظريات التي تتعلق بطبيعة المجتمعات البشرية وبتحليل البناء ألإجتمــــاعي والوظيفة داخل إلنسق الى جانب التنظيم الشامل للمجتمع وفق مناهجها وطرقها في البحث العلمي. ان اهمية هذه الدراسة تتجسد بالإسهام الأساسي للتحليل السياسي للانثروبولوجيا الذي أخذ يشكل مشروع للمعرفة والتمكن العلمي من تنوع وغايات النظم السياسية وطريقة سير الحكم والتحولات والوظائف التي يؤديها في البنية الاجتماعية التي تستند على أعمال علمية تحليلية مشفوعة بنماذج نظرية وبمادة ميدانية تتركز على بيان المشكلات تعتري السلوك داخل المجال السياسي وبنية المجتمعات. لذلك ترتكز اشكالية البحث في امكانية رصد مضمون التحليل السياسي واهدافه ووظائفه وأهم مناهجه ، ليكون السؤال البحثي الرئيسي الذي تسعى الدراسة للإجابة عنه متمحوراً حول الدور الذي تلعبه الأنثروبولوجيا السياسية في مجال التحليل السياسي للنظم السياسية التي تخضع لإعتبارات تاريخية وسياسية وثقافية ودينية؟ وما هي أهم ادواتها ومفاهيمها في التحليل؟  وماهي مناهجها؟ وما الذي ستضيفه في حدود نماذجها النظرية التي تتعلق بتفسير الظواهر السياسية المتعلقة بالنظام السياسي وتفاعلاته؟ لذلك سعينا في بحثنا إلى إثبات فرضية تقوم على أساس الترابط بين مهمة وغايات التحليل السياسي واهتمامات التحليل الأنثروبولوجي في الحقل السياسي ومكانة الفرد في النظم السياسية. مرتكزين على المنهج الوصفي كمقترب أو مدخلاً مفسر لجوانب الموضوع المراد بحثه. 
 
المحورالاول: ماهية التحليل السياسي
 يأخذ مفهوم التحليل أبعاداً مختلفة تعود لاختلاف المجال الذي يعنى به والأغراض المبتغاة منه، فالتحليل مصطلح جامع ذو استعمالات متعددة ويشمل على مجالات واسعة من الأنشطة العلمية والمنهجية. والتحليل من الناحية اللغوية بصفة عامة ، هو حل العقدة وحلها حلاً، فتحها ونقضها فانحلت(1). أي بمعنى تفكيك الشيء وإرجاعه إلى أصوله، فالتحليل يعني التفكيك إلى المكونات الجزئية لمعرفة وبيان المكونات الداخلية والخارجية وبنية التفاعل بين هذين المكونين للوصول إلى نتيجة منطقية تعلل الظاهرة المراد تحليلها ومعرفة حركتها وتفاعلها. وبذلك يؤطر التحليل العمليات العقلية التي يستخدمها الباحث في دراسته للظواهر والأحداث لكشف العوامل المؤثرة في الظاهرة المدروسة وفرز عناصرها لمعرفة خصائصها وسماتها وطبيعة العلاقات القائمة بينها، وأسباب الاختلافات ودلالاتها لتكون مدركة من جانب العقل. اذ يرى (صامويل باتلر) وجوب دراسة كل شيء في ذاته قدر الإمكان مع دراسة علاقاته لنتمكن من دراسته فهماً ودراسة ثناياه كافة (2). ويعرف التحليل بأنه مجموعة الأساليب والطرق المتنوعة التي يستند إليها المحلل على دراسة البيانات المتوفرة من اجل تقييم الاداء في الماضي والحاضر وتوقع ما سيكون عليه في المستقبل فهي عملية تستهدف التقييم للحاضر والتنبؤ للمستقبل(3). كما ينظر الى التحليل بأنه عملية فهم طبيعة الظاهرة من خلال الكشف عن أصلها وتمييز مختلف أجزاءها ومكوناتها وتجزئتها كل على حدة بهدف اكتشاف طبيعتها ووظيفة هذه الأجزاء المسببة للظاهرة وحجمها وعلاقتها بغيرها من الظواهر ومن خلال صياغتها في شكل فروض أو قانون علمي وباستخدام إجراءات وأدوات ملائمة(4). إن التحليل العلمي يوصف بأنه عملية عقلية فلسفية منطقية وتشكل أساس مختلف العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية وتطورها على السواء ، وهي تدخل في نطاق ما يسمى بفلسفة العلوم ، غير ان الفارق الوحيد بين مجالات التحليل العلمي تتجسد في المنهج الذي يتبع للكشف عن طبيعة الظاهرة ، وهذا المسلك  يعرف بالأسلوب التحليلي والذي يشير الى مجموعة الخطوات المنهجية التي تسعى إلى اكتشاف المعاني الكامنة في المحتوى، والعلاقات الارتباطية لهذه المعاني من خلال البحث الشكلي والموضوعي، والكمي والكيفي للسمات الظاهرة في هذا المحتوى. اذ تفرض كل ظاهرة إجراءات تحليلها والأدوات اللازمة والملائمة لعملية تفكيكها والكشف عن حقائقها ووضع المعالجات بصددها وهذا يشمل جميع العلوم الإنسانية والطبيعية بتنوعاتها وتفرعاتها واشتقاقاتها(5). فمن المعلوم ان لكل حقل من هذه الحقول المعرفية والعلمية تصلح أدوات وإجراءات معينة للتعامل مع ظاهرة تخص تلك البيئة، لكنها قد تعجز في تفسير أسس ظاهرة أخرى في حقل معرفي أخر وإيضاح جوانبه الأساسية بحسب المعايير المستخدمة لانتقاء إجراءات التحليل والأدوات المستخدمة في كل مجال من مجالات المعرفة العلمية ومنها العلوم السياسية، أي رغم وجود قواعد عامة للتحليل يمكن الاعتماد عليها في كل حقل علمي بصرف النظر عن موضوعه، إلا إنها تختلف في طرق التحليل التي تتفق مع طبيعة كل ظاهرة وموضوع وحدث . 
اولا: التحليل السياسي
 بناءً على ماتقدم، يمكن القول ان محاولة التوصل إلى دلالات أكثر دقة وتحديد لمفهوم التحليل السياسي فان الاتجاه العام ينصرف إلى التمييز بين جوانب جوهرية وأخرى إجرائية عند تعيين المفهوم ، اذ يستند الجانب الجوهري او الموضوعي إلى تحديد محتوى الظاهرة أو المشكلة أو الموقف، في حين يذهب التعريف الإجرائي إلى التأكيد على السمات الأساسية للمشكلة أو الظاهرة بدون النظر إلى ما اذا كانت حالة خاصة تتضمن أزمات سياسية بنيوية أو أزمات على المستوى السلوكي الشخصي(6).
 فالتحليل السياسي هو العلم الذي يتوجه نحو التحليل المنظم للظاهرة السياسية ويحدد مسارها واُسسها بهدف تنظيم النشاطات والتفاعلات المترتبة من جراءها،وكذلك يعنى بدراسة واستخدام مناهج وأساليب الاقتراب من الظواهر السياسية في محاولة تفسيرها بالاستناد إلى عملية التحليل ليتم ضبط المعرفة السياسية في ضوء الاتساع والتطور الذي أخذ يشهده حقل العلوم السياسية من تغيرات بنيوية في معالجة الظواهر المرتبطة به من حيث شكلها وأدائها وبنيتها واليات حركتها وتفاعلاتها. وهنا يرى (روبرت دال) أن السياسة قد غدت حقيقة من حقائق الوجود الإنساني كونها إحدى الحقائق ، وبالتالي فان تأثيراتها لايمكن تجنبها أو تفادي النتائج المتولدة عنهاسواء شئنا أم أبينا(7) . وبذلك فان التحليل السياسي يستهدف الوصول إلى فهم وإدراك أفضل خيارات التعامل مع الوقائع والظواهر والأحداث المتصلة بالعالم الذي يعيش فيه الأفراد ويتعاملون ويتأثرون معه في أي شكل من أشكال التعامل والتفاعل السياسي.
والحق ان فهم وتحليل الظواهر والأحداث المرتبطة بعلم السياسة هي عملية معقدة ومتشابكة وذات أبعاد متعددة الجوانب والجذور ، وبالتالي تستلزم خبرة ودراية كافية للتعامل مع تلك التعقيدات بأسباب وأدوات علمية خاصة ، إضافة الى ما تقتضيه المستلزمات العلمية وفي مقدمتها الموضوعية والتجرد في تناول القضايا والظواهر والأحداث السياسية ، وذلك لان الظاهرة السياسية بطبيعتها يصعب ضبطها والتحكم بها لاختلاف القيم والسياقات التاريخية والامتداد الزمنيالمحيط بالظاهرة، إضافةإلىماتحملهالظواهر السياسية من خلفيات فكرية وسياقات اجتماعية وثقافية (8) ، وبالتالي فان الاطار العام للتحليل الظواهر السياسية يتركز حول دراسة ومعالجة المشاكل الناجمة عن التعامل والتفاعل السياسي بقصد الفهم والتفسير والتوقع من خلال استخدام طرق البحث المختلفة التي يبلورها أو يقتبسها أو يتبناها من العلوم الأخرى (9). وبناء على ماتقدم يمكن القول، أن التحليل السياسي يعني إتباع أسلوب علمي موضوعي منتظم يعتمد على استعمال المنطق والبرهان ويربط بين الحقائق والقيم في البحث والدراسة من اجل وضع رؤية أو التوقع أو أعداد التوصيات التي تساعد في تحقيق أقصى درجة ممكنة من النجاح في حل أو تفسير ظاهرة أو حدثأ ومشكلة سياسية، فهو أداة تزود بمجموعة من الأفكار والمبادئ المتفقة مع قيم وتقاليد المجتمع. بمعنى ان التحليل السياسي يتجه نحو دراسة المشاكل والازمات السياسية الناتجة عن وجود ظاهرة القوة او السلطة او الحكم داخل المجتمع السياسي في جميع جوانبها النظرية والعملية، التاريخية والمعاصرة ، المؤسسة واللامؤسسة ، لمعرفة ما تنتجه الظواهر او الأحداث السياسية في تأثيرها، أو كيفية معالجة الازمات الناجمة وضبطها وفق البنى السياسية السائدة ونمط الحكم وطبيعته وخياراته وتوجهاته.
ثانيا: مستويات التحليل السياسي
يتجه اهتمام التحليل السياسي على اكتشاف القوانين التي تتحكم بالظواهر السياسية، ووضع التصورات، والخطط لأسلوب إدارة تلك الظواهر والتحكم بها باتجاه جعلها تتوافق مع معطيات المصالح العامة، وغايات وقيم المجتمع المنتظم سياسياً أو التخطيط لمواجهة التفاعلات الناتجة عن بعض الظواهر السياسية وامتدادها إلى مجتمعات أخرى، وتهديد العوامل الاقتصادية والاجتماعية لمجتمع آخر. وهذا الاهتمام يفترض اكتشاف المستويات الحقيقية للظاهرة السياسية من أجل الوصول إلى حقيقتها ومدى تأثيرها الجزئي أم الكلي، السلوكي أم المؤسسي، الداخلي أم الخارجي. فيشير مصطلح مستوى التحليل إلى "موقع وحجم ونطاق الهدف البحثي" (10) ، ويعرّف مستوى التحليل باعتباره يتعلق بكيفية تحديد الأنماط المختلفة للمواقع التي تكمن فيها أو تنبثق منها مصادر تفسير الظواهر وكيفية التعامل البحثي معها وعلى أساس اختيار وحدة أو مستوى التحليل تحقق أحد أهم غايات ووظائف التحليل السياسي إضافة إلى الفاعلية لمجموع الموضوع أو الظاهرة الذي يتولى التحليل تناوله، ويطلق على الوحدة أو المستوى الذي يكون موضوع التحليل السياسي اسم الفاعل السياسي الذي يكون أحد أطراف العلاقة بين المتغيرات والذي تنطبق عليه الفروض المفروضة (11).
إن وحدة التحليل قد تكون ميل سلوكي للفرد، أو هيئة، أو نظام، أو دولة، ولكل من هذه الوحدات خصائص معينة ترتبط بدراسة الظاهرة السياسية ومن ثم التفاعل معها أو التأثر بها، وبالتالي يتوجب على التحليل السياسي أن يتجه لاختيار الأسلوب والمنهج الملائم للتعامل معها والكشف عن جوهرها، وهنا يفترض التحليل تعيين أحد مستويات التحليل، لان دراسة او تحليل سلوك سياسي يفرض أسلوباً يختلف عن دراسة مؤسسة سياسية أو نظام سياسي، كما أن دراسة وتحليل المواقف والآراء السياسية تختلف عن دراسة وتحليل الوقائع السياسية، إضافة إلى أن جوانب تحليل أساليب ومعالجة اثار الظواهر السياسية تفرض اختيار المنهج الملائم لها، بمعنى أن مقتضى مادة التحليل ومستوياه تفرض أسلوب التحليل والمنهج الملائم للتعامل والكشف عن جوهر الظاهرة، كما أن غموض بعض الظواهر أو اتساع نطاقها وارتباطها من أكثر من ظاهرة أو مستوى أو مسلك تحليلي بفعل عوامل ومتغيرات البنية الداخلية والخارجية وتشابك الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والثقافية(12).
ظهر مدخل يقوم في تحليلاته على نحو منهجي يرتكز على فكرة رئيسية هي رصد تفاعل الأداء والعناصر الداخلة في التحليل بصورة كلية، فالأنساق أو الوحدات والمستويات الفرعية تؤخذ بنظر الاعتبار في حركتها وعملها لأنها لا تشكل حالات مغلقة أو منفصلة بعضها عن بعض، وهي تشكل بمجموعها مؤثرات في حركة الحياة السياسية، ولذلك ليس بالوسع أن ندرك المواقف والقرارات السياسية خارج إطار نسق القيم والنظم التي تشكل مجتمع الظواهر الخاضعة للتحليل والتي تمثل وحدة التحليل النهائية(13). وبذلك يرى هذا المدخل أنه في حالات لا يمكن تحديد مستوى أو جانب، بمعنى أن يؤخذ بنظر الاعتبار الجوانب الأخرى المرتبطة بها، لما له من انعكاسات مباشرة على الظاهرة بكليتها الشاملة، دون أن ينفصم في أسسه وأساليب بحثه عن المنهج أو المسلك الملائم للتعامل مع وحدة التحليل النهائي.
إن تركيز التحليل السياسي على جمع أكثر من وحدة ومستوى تحليل قد يكون مفيداً من ناحية المبدأ، أو حينما تقتضي مادة التحليل السياسي التعامل معها والكشف عن جوهرها، إذ يصعب تطبيقه في حالة دراسة وتحليل عمل مؤسسات الدولة والنظام السياسي، فالمنهج المناسب يقتضي التعامل مع أدوات تنظيمية وقانونية، في حين أن معالجة وتمكين قيمة سياسية وتأثيراتها على سلوك سياسي في اتجاه القرار أو الانتخابات أو التظاهر فإنها تستدعي على المحلل السياسي استخدام أكثر من وحدة ومستوى لارتباطها وعلاقتها في الواقع ببعض الظواهر السياسية. وعلى سبيل المثال عندما يركز التحليل السياسي على مسألة الاستقرار السياسي في نظام سياسي معين، بطبيعة الحال فإن الوظيفة الأساسية لمستوى التمثيل هي تفسير لظواهر، فإن تحديد مستوى التحليل سوف يسير وفق أحد اتجاهين، أما مستوى تحليل جزئي أو مستوى كلي إذا ما اتجه المحلل السياسي لبحث ديناميات التفاعل بين وحدات النظام . وعلى سبيل المثال  ان ظاهرة عدم الاستقرار السياسي قد تكون ناجمة عن الرغبة في الاستحواذ على السلطة من قبل فرد أو حزب أو فئة، فالاستحواذ الفردي على السلطة يكون هو مستوى تحليل جزئي، أو قد يكون ناتجاً عن خلل في  بنية النظام السياسي وفشل مؤسساته وعدم الكفاءة، وهذا ما يلزم مستوى تحليل كلي وليس جزئي لأنه يتعلق بمستوى تمثيل نظامي متعدد الوحدات(14).
ثالثا: وظائف التحليل السياسي
أ. الرؤية السياسية: يتخطى التحليل السياسي هدف البحث المجرد، فينحو باتجاه وضع رؤية ذات قيمة علمية موضوعية وشاملة تمكن المستفيد من التحليل من ضبط موضوع التحليل والتحكم به بدرجة واقعية، وبذلك تشكل الرؤية مقوماً وهدفاً وركناً أساسياً من أركان التحليل السياسي وإدراكاً لجهود التحليل وكشفاً لمعانيه وغاياته. ولكن ما هي الرؤية التي يبتغيها التحليل السياسي؟ وكيف يتم صياغتها؟ وما هي عوامل مصداقيتها؟
الرؤية تطلق من الناحية اللغوية على النظر بالعين، كما تطلق على النظر بالقلب، والنظر في القلب يعني العلم والمعرفة بالشيء، أي بمعنى التصور الذهني(15) ، فالمعنى اللغوي يشير إلى أن الرؤية هي تصور ذهني أو ذاتي مبني على شعور مسبق. أما المعنى الاصطلاحي فيذهب إلى أبعد من ذلك حيث تجسد الرؤية موقفاً عاماً أو حدثاً عاماً تتضمن تمثلاً عاماً عن الواقع سواء كان طبيعياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو فلسفياً(16). وينطلق مصطلح الرؤية إلى مجالات واسعة عندما يعبّر عنها بأنها التعبير المعقد للأفكار تجاه التطلعات والأهداف(17). وقد أصبحت الرؤية مكوناً تحليلياً صالحاً لقدرته على أداء إجراءات وظيفية ومنظور منهجي في العلوم الإنسانية لاسيما في التحليل السياسي والمتعلق بالظواهر والمواضيع السلوكية ذات التصورات والأبعاد الذهنية، فالرؤية تشير إلى التصورات الفكرية المبنية على مناقشة تلك التفاعلات وحركة تطورها وجذورها وارتباطاتها ومستويات فاعليتها وجوانب قوتها أو إخفاقاتها، والتي بمجملها تشكل مسار التصور وآفاق التوقع. ومن هنا فإن الرؤية تمثل الأساس أو الركن النظري الذي يبنى عليه التحليل لتحقيق مقصده وهدفه، ومن أجل بلوغ تلك المقاصد وتكاملها مع الهدف النهائي للتحليل الفاعل وتجنب مواضع القصور، ولإعطاء التحليل قدرة على المواكبة مع المتغيرات والتفاعلات للظاهرة أو الحدث، تعتمد الرؤية على مبدأ التقسيم الزمني أو وضع مشاهد للتصورات والأهداف التي يتبناها التحليل، وهذه المراحل الزمنية أو المشاهد تتسم بالوضوح والمرونة مع ثبات الرؤية وفق صياغات معطياتها، وهذا ما يعطي التحليل إمكانية وواقعية التطبيق والوضوح (18). وتتسم الرؤية التي تشكل اهم أركان ومقاصد التحليل السياسي بسمات مهمة تتجسد بالشمولية والواقعية وإمكانية التطبيق والقياس ، فالرؤية يجب أن تتسم بالشمولية للأهداف التي تصبو في نطاق التحليل النهائي، كما أنها تتسم بالواقعية اي الاستناد إلى معايير موضوعية وأسانيد متوافقة مع المعطيات والبيانات والمقدمات والحقائق، وبالتالي تكون رؤية متفقة مع معطياتها ولملاحظاتها قابلية للقياس المقبول. إن هدف كل نظام سياسي مهما كانت توجهاته هو تحقيق استقرار سياسي دائم والرؤية هنا الهدف وهي التي ترسم في كيفية الوصول إلى هذا الهدف. فعلى سبيل المثال اذا ما اريد تحليل لجزء من تفاعلات النظام والمتمثلة في دور الأحزاب السياسية في الانتخابات العامة لدولة معينة وموقع الرؤية السياسية في التحليل السياسي لسير وعمل الأحزاب والتوقع بشأنها فإن المحلل السياسي يبدأ بدراسة الظاهرة الحزبية في تلك الدورة من حيث القوانين والأسس الدستورية، ثم دراسة نظم الانتخابات، ودراسة لأهم الأحزاب السياسية وقوتها المادية والتصويتية، أو مدى حصولها على التأييد الاجتماعي، ومدى تمثيلهم للمكونات ، وبالتالي وضع رؤية حول المشاهد المحتملة للهدف العام الذي قصدت إليه الأحزاب المتنافسة وهو الوصول إلى السلطة.
ب. التنبؤ: تتسم الظواهر السياسية بالتعقيد وسرعة مستجداتها من أزمات وأحداث تفاعلها المستمر بين محيطها الخارجي وبيئتها الداخلية، هذه السمات تستدعي القائمين بالتحليل السياسي استخدام نماذج أو تقنيات أو عمليات ترشد في عملية التخطيط، وتسهم في تحقيق قدر من الفاعلية عن تسيير وإدارة تلك الأحداث ومواجهة نتائجها المحتملة بالأساليب العلمية في ظل الأهداف المحددة. لذلك فان من وظائف التحليل الاساسية هو التنبؤ، والذي يشير عملية تقدير مدروس مبني على أساس دراسة الظاهرة أو الحدث المعني، وتطوره ونموه واتجاهاته ومداه وقوة ارتباطاته، إضافة إلى إخضاعها إلى أدوات القياس الملائمة والأمور الطارئة والمستجدات التي يكون لها تأثيراً على الظاهرة أو الحدث خلال فترة البحث. ويعرّف التنبؤ بأنه علم وفق التوقع بالأحداث المستقبلية، فهو علم لأنه يستخدم الأساليب والطرق الموضوعية التي تزيد من دقة تميزه، وهو فن، لأن الخبرة والحدس والتقدير لها دور في اختيار الأسلوب الملائم للتنبؤ(19). إن استمرار وثبات الظروف الموضوعية للظاهرة، وعدم خضوعها لمستجدات داخلة وخارجة، يمكن من التنبؤ بصورة أكثر استقراراً وثباتاً، ويقدم توقعات الوصف في المستقبل، وأن يؤثر فيه صياغة السياسات والقرارات الأكثر ملائمة بصددها. فالتنبؤ هوالتخطيط ووضع الافتراضات حول أحداث المستقبل باستخدام تقنيات خاصة عبر فترات زمنية مختلفة، وبالتالي فهي العملية التي يعتمد عليها متخذو القرارات في تطوير الافتراضات حول أوضاع المستقبل(20). وتتنوع أساليب التنبؤ وطرقه بحسب الظروف، ومدى الملائمة مع الظاهرة أو الحالة، ولذلك على المعني بالتحليل أن يقدم أسلوباً ملائماً للتنبؤ كونها مسألة ضرورية، وتساعد على الاستعداد المسبق لمواجهة الأحداث المستقبلية. ويعد التنبؤ في الدراسات الطبيعية والعلوم الصرفة أكثر دقة في التحليلات المتعلقة بالدراسات الاجتماعية ولاسيما السلوكية التي يصعب إعطاء هدف نهائي ولذلك يوصف التنبؤ بالحالة الافتراضية. وعلى العموم هناك عدة أساليب يعتمد عليها التنبؤ بحسب الحالات، منها أساليب كمية تستخدم الطرق البيانية والإحصائية للوصول إلى تنبؤات هي أكثر دقة وأكثر تحيزاً بالمقارنة مع الأساليب النوعية التي تعتمد على الحس الذاتي والخبرة والتقدير. ويمكن أن نشير إلى أن السمات العامة للتنبؤ في التحليل السياسي تتمثل بـ (21):
1.    إن أساليب وطرق التنبؤ تفترض استمرار العوامل التفاعلية حسب قانون ميل الظواهر للتكرار.
2.    إن التنبؤات عادة ماترتبط بقيم معينة بسبب تعدد المتغيرات المؤثرة، ولهذا يعتمد وضع احتمالات متعددة  في مضمون التنبؤ.
3.    إن التنبؤ بمجموعة ظواهر متسلطة هي أكثر دقة من التنبؤ المفرد.
4.    دقة التنبؤ تتاثر بالافق الزمني.
5.     صعوبة الحصول على المعلومات الدقيقة  لغرض التنبؤ في المستقبل.
6.    التكلفة العالية نسبياً لتنفيذ عملية التنبؤ بالوسائل العلمية الحديثة.
7.    ميل صناع القرار إلى الاهتمام بالحاضر أكثر من المستقبل المبني على تنبؤات.
ج. التفسير: التفسير في اللغة هو بمعنى البيان والكشف، وفسّره أبانه ووضحه(22). والتفسير العلمي للظواهر والأحداث يشير الى الفهم، ويمكن او يوصل تحليل الظاهرة والحدث إلى أسبابها الحقيقية، أي ربط السبب بالنتيجة، وللتفسير مردود إيجابي يمكن المحلل من إعطاء الأدوات الحلول الممكنة للتحكم بالظاهرة، والحدث وفهم دقيق للأحداث والتفاعل معها، فمثلا لمعرفة الأسباب الحقيقية لانتشار العنف في بنية مجتمع معين تمكن من تحديد عوامل انتشارها وطرق معالجتها في ذلك المجتمع من قبل النظام السياسي. وفي هذا السياق فإن التحليل السياسي يتطلب الكشف عن العلاقات والروابط القائمة بين الظواهر والأحداث المرتبطة والمحركة للسلوك السياسي وبين الوقائع والعوامل المحيطة بهذا السلوك، وهذا يتحقق من خلال الكشف عنها وإمكانية قيام التحقق منها. والحق إن تطور المعرفة العلمية وفرت أساليب وطرق للتحليل والتفسير من أجل إعطاء واقع منهجي ومنظم للظواهر والأحداث انطلاقاً من وقائع محددة ودقيقة، وذلك بهدف البحث عن تفسيرات يطبعها الاستمرار من جهة، والدقة والبيان في نسقها من جهة ثانية(23). إن مسألة التفسير لا تنحصر في مهام العلم، وإنما ارتبطت تاريخياً بالمعرفة البشرية عموما ، حيث رافقت الإنسان في الحاجة والرغبة في فهم نفسه وبيئته والظواهر المحيطة به، ولذلك فإن السمات الأساسية للتفسير في الاستخدامات وفق شروط واصول المنهج العلمي يتحدد بـ (24).
‌أ.       إن التفسير يتحدد في مكاشفة ورصد الدينامية المتولدة من الظواهر والأحداث.
‌ب.  إن التفسير يتخذ مظهر التحليل والتشخيص، ومن ثم فإنه يبقى تفسيراً ذا طابع تأويلي.
‌ج.    إن التفسير يهدف للإحاطة بالظواهر والأحداث غير السوية والاضطرابات والازمات.
 
 المحورالثاني: المنهجية في التحليل السياسي
التحليل السياسي من حيث المبدأ هو نشاط علمي منظم قائم على الأسس العلمية يهدف إلى استخلاص نتائج موضوعية تخص الظواهر والأحداث والتفاعلات السياسية التي تجري داخليا وخارجيا(25). ويكتسب التحليل السياسي أهمية بالغة بوصفه أسلوباً علمياً موضوعياً قائم على أسس منهجية رصينة يساهم في رفد المستويات العلمية ومراكز صنع القرار السياسي بمجموعة من الجوانب المعرفية والتفسيرات والمبادئ والحلول والخيارات وتقديم حلولاً موضوعية للتعامل مع الظواهر السياسية وإفرازاتها وتحقيق خطوات موضوعية للوصول إلى حقائق علمية توظف للتعامل مع الوقائع التي تفرزها تلك الظاهرة أو تفسر جوانبها أو لوضع توصيات للتعامل المستقبلي لتفادي تأثيرها السلبي في ظل عالم باتت متغيراته وأحداثه متداخلة ومتشابكة وسريعة التأثير في جوانب الحياة المجتمعية كافة.
اولا: البنية المنهجية للتحليل السياسي
يشير تعبير منهجية الى البنية المنطقية لإجراءات البحث والتحليل العلمي كونها تشمل على التقنيات التي تجمع مواد البحث والتحليل للوصول إلى نتائج محددة وفق أطر ومجموعة أسس يقوم على أساسها اهتمام المختص بدراسة الظاهرة وتطويع متغيراتها وتفاعلاتها عن طريق المنهج، ولذلك يقال أن العلم بمنهجه لا بموضوعه(26). وأساس المنهجية هو العلم الذي يعني طريقة منهجية في جمع وتنظيم المعلومات وصياغة الفرضيات والروابط بين السبب والنتيجة واستخلاص التعميمات في النتائج بشكل مبادئ أساسية والكشف عن مجهول أو برهنة حقيقة ما بما يمكن من إصدار التعميم العلمي المناسب. وتتميز المنهجية السياسية بالجهود الصادقة إلى إقرار الوقائع باستخدام التنظيم السليم لسلسة الأفكار وتفسير الوقائع وتحليلها وصنع الأنماط السياسية، ولذلك يتم وصف المنهجية في دراسة وتحليل الظواهر السياسية بمعنى دقيق من خلال حصرها في عمليات فكرية عقلانية منضبطة تهدف إلى معرفة الواقع السياسي(27). أما المنهج فهو استراتيجية عامة تعتمد على مجموعة من الأسس والقواعد التي يتقيد بها الباحث في تحقيق أهداف العمل أو البحث العلمي(28) ، أو هو طريق كشف الحقيقة في العلوم بواسطة مجموعة قواعد عامة تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته للوصول إلى نتيجة معلومة(29). فالمنهج إذن هو مجموعة مقننة من الأدوات التي تستخدم وفق قواعد إجرائية محددة متفق عليها من قبل المجتمع العلمي المحترف، بحيث أنها تشكل لغة خاصة بهذا المجتمع، ويرسم علاقاته المختلفة مع مجتمعات مهنية ولغة المنهج هي عبارة عن نظام يحدد العلاقات الممكنة وغير الممكنة في عملية الإنتاج المعرفي(30). 
إن الرغبة في التوصل إلى تحليل علمي يستمد معطياته من الدقة والتعميم والإثبات الذي مكّن العلوم الطبيعية، فما وصلت إليه، قد دفع علماء السياسة * إلى البحث المستمر عن وسائل التحليل المستخدمة في الحقول الأخرى والاستناد إليها في التحليل السياسي، وتقديم تحليل واقعي وعلمي لمشكلات العالم، والتنبؤ بمستقبل تلك المشكلات، وبناء نموذج قادر على التعامل معها، ودفع الحلول المناسبة لها مع تطور الزمن(31). وفي إطار التطور وإرساء المنهجية العلمية لدراسة وتحليل الظاهرة السياسية، فقد برزت ثلاث اتجاهات منهجية علمية واقعية، ركز الأول منها على التصدي للواقع في ضوء الملاحظة والتاريخ، في حين لجأت الثانية إلى عمليات عقلية معينة تبدأ بالفرض العقلي لشؤون الظواهر لتنتقل إلى البرهان وتنتهي إلى المنطوق، وأخيراً ظهر الاتجاه الثالث أو الاتجاه العلمي التحليلي الذي يركز على دراسة الظواهر باعتبارها مادة التحليل من ثم تحليلها والكشف عن علاقة السبب وأثره، ومن ثم ما تجري عليه هذه الظواهر من حتميات، وهذه العلمية المفرطة هو مجال تطور الظواهر السياسية الذي استمد التحليل السياسي معطياته وأبعاده منه لفهم وحل معظم المشاكل السياسية النظرية والتطبيقية(32). 
إن النظرية السياسية في سيرورتها الزمانية القديمة والوسيطة والحديثة والمعاصرة قد أفرزت في تفاعلها وتكوينها مجموعة الأدوات الفكرية والنظم والقيم التي تحكم أساليب وإجراءات البحث والتحليل، وكذلك أرست دعائم المنهج العلمي للحقل السياسي بمجمله(33). فمنذ نشأة الجماعة البشرية والإنسان منشغل بالسياسة لأنه يفكر بالنظام الأصلح للحكم، ومع الانتقال من الأساطير والفلسفات التصورية والتجريب ظهر علم السياسة تعبيراً عن سعي الإنسان لتجسيد تطلعاته السياسية المثالية وفي الوقع، أي في السلطة السياسية والقيادة السياسية والسلوك السياسي والتنظيمات والمؤسسات السياسية.وكان التقريب بين الفكر السياسي والحياة السياسية رهن يفهم حقائق السياسة واكتشاف جوهرها وقوانينها على نحو وضعي بجهود الإنسان في البحث عن الفهم وليس كما يتصور، وهنا أوجدت النظرية السياسية وأصبحت السياسة علم موضوعي، وتطورت الجهود البحثية فأنتجت النظريات وتعددت المناهج البحثية التحليلية، وطورت الأدوات التي أضافت إلى علم السياسة ذاتية واستقلال . وبذلك أخذ يستند التحليل السياسي إلى المعرفة في المسائل السياسية التي يدور التفكير فيها لمجابهة عدم اليقين بطريقة مفيدة بحيث نستطيع أن نبحث عن نتائج وحلول مرضية للمشاكل بدلاً عن البحث عن الحلول الكاملة أو المثالية التي قد تكون تكلفتها باهظة من الناحية البشرية والمادية (34).
إن الانتقالات الفكرية والتطورات المعرفية لعلم السياسة على المستوى الكلي، أي منذ الاعتماد على فلسفة الأخلاق في عصر التنوير إلى بداية المرحلة التقليدية بعد القرن التاسع عشر والاعتماد على المدارس القانونية والمؤسسية والتاريخية وغيرها في التحليل السياسي قد مهدت للتحرر من التقليد السائد والانغلاق عن العلوم الأخرى في تفسير الظاهرة وتحليل أبعادها وجذورها ونتائجها، فكانت الإنتاج المعرفي بعد الحرب العالمية الثانية يتسم بالتحول الكبير الذي طرأ على الحقل السياسي في تحقيق نتائج مذهلة في تقليد المناهج المعمول بها في العلوم الطبيعية، وساهمت في ترقية اقترابات جديدة، ووضعت طرقاً أخرى للبحث والتحليل، وانتشرت مناهج غير مألوفة سابقاً بسبب اعتمادها على المنطق العلمي، ومن ثم تم تقويم هذا الاتجاه ليتماشى مع الواقع من خلال اعتماد التعددية المنهجية وعدم إحداث قطيعة معرفية شاملة لتكون أمام معالجة مباشرة للظواهر السياسية من خلال الاعتماد والاهتمام بمشاكل المجتمع وفقاً لما يناسب القدرة التفسيرية للظواهر السياسية الجديدة والتحديات التي تفرزها(35). ولعل ذلك يرجع إلى تعقد الظاهرة السياسية وتشابكها مع عناصر متعددة ومتغيرات متداخلة مع ظواهر أخرى في المسببات والنتائج وكذلك عدم الاستقرار والثبات قد يحول دون تحقق الموضوعية شأنها شأن العلوم الإنسانية بصورة عامة، إلا أن التراكم المعرفي والعلمي لحقل السياسة قد ساهم في إيجاد مميزات تحدد لذاته وموضوعه مناهج نوعية تختلف نسبياً عن غيره عن العلوم الأخرى بهدف تكييف ظواهره إلى الملاحظة والتجريب والتفسير العلمي(36) . رغم أن المحصلة النهائية للتحليل السياسي استمر يواجه عقبات في تطبيق المناهج العلمية لدراسة الظواهر السياسية وذلك بسبب:
1.    تعدد مستويات وامتدادات الظاهرة السياسية في تفاعلها، فقد تكون الظاهرة السياسية مسبباً وفاعلاً لعواقب مجتمعية متنوعة اقتصادية وثقافية ونفسية داخل المجتمع، ومن جانب آخر قد يكون التفاعل تأثراً وليس تأثير مع ذلك السياق، إذ ليس دائماً يكون الفاعل والمسبب بالضرورة سياسياً، ولذلك فإن هذا التعقيد والتنوع يدفع بالمحلل السياسي إلى اعتماد مناهج غير المعتمد في إطاره المصرفي الخاص(37).
2.    ديناميكية الظاهرة السياسية وسرعة التحول في مكوناتها ونتائجها يجعل من الظاهرة المدروسة تدخل في إطار التاريخ والعودة المستمرة إلى مكوناتها وتفاعلها لرصد العوامل المتغيرة وهو ما يجعل التحليل لا يشكل تنبؤاً علمياً دقيقاً أو تقديم تحليلاً يفيد في التأثير على الظاهر حين وقوعها زمنياً (38) .
3.    عدم تجانس الظاهرة السياسية كونها تتأثر بالتدخل السلوكي، وكذلك حالة تتنوع وقائعها وعوامل تكوينها، وبالتالي يكون المجهود العلمي لتحليل أحداثها يتأثر بتعدد بمستويات الظاهرة، واتباع إجراءات منهجية خاصة نسبياً، إذ يصعب تصنيف جميع تلك المستويات ضمن الفئات المتجانسة مثل الظواهر الطبيعية القائمة على أساس التجانس ووحدة الطبيعة، فتكون صعوبة التحليل في كيفية الحصول على تعميمات واستخراج القوانين التي تحكم الظاهرة وأحداثها المتفرعة عنها(39).
4.    صعوبة استخدام التجريب في مجال الظاهرة السياسية ومحدوديته، وهذا نابع من تكاليفه الباهظة التي ترجع إلى عوامل كثيرة قد لا يفلح التحليل والتنبؤ والتوفيق بينها، حيث أن إحدى مستويات الظاهرة السياسية في الشؤون التي تهم التعامل الخارجي وصنع القرار السياسي قد يكون التجريب خارج إطار المجهود العلمي المنطقي(40).
5.    صعوبة التقيد بضوابط الموضوعية والتجريد والحيادية خارج إطار الفكر والوعي السلوكي، وهو ما يجعل التحليل السياسي ذا قيمة معرفية نسبية، في حين أن تحقيق نتائج خارج إطار المعتقدات، والذاتية المعتدلة والمتجردة يصبح التحليل قابلاً للتعميم وفق الصيغة العلمية خارج إطار الغايات(41).
ورغم كل ما تقدم حول الظاهرة السياسية، فإن علم السياسة استمر بالتطور، وتحديد موضوعه، وبناء مناهجه وتقنيات التحليل السياسي التي تخضع لكل الأسس والركائز المعتمدة في مجال الدراسات الاجتماعية بصفة عامة، أو التي تتفق مع طبيعة موضوعه، لذلك اتسمت المناهج التحليلية بالتنوع والتعدد رغم أن الظاهرة السياسية واحدة، حيث اقتضت معرفة وتقنيات البحث والتحليل السياسي الإلمام بكافة امتدادات الظاهرة السياسية وتشابكها مع تفاعلها المجتمعي، ولتعدد العناصر التي تحيط بالظاهرة السياسية أصبح الاعتماد على منهج ثابت للتحليل لا يقدم النتائج الكاملة حول جوهر الظاهر، وبذلك فإن التحليل السياسي لكي يعالج المشاكل الناتجة في الظاهرة السياسية في تفاعلها، عليه أن يعبئ كل ما يستطيع تعبئته من مفاهيم وطرق بحث مختلفة يبلورها أو يقتبسها أو يتبناها عن العلوم الأخرى لمعالجة موضوعاته على نحو شامل(42).
رغم أن موضوع تصنيف المناهج أو الزعم بوجود منهج خاص بعلم السياسة قد تبدو أول وهلة معضلة علمية وموضوعية ترجع في أسبابها إلى حداثة نشأة علم السياسة بصورته المستقلة عن فروع العلوم الاجتماعية، وثانياً بسبب تعدد استخدام معايير التصنيف من قبل المصنفين الذين أنتجوا في سياق أعمالهم أنظمة تصنيفية متعددة تتميز بتداخلها مع بعضها البعض وتشابكها بصورة معقدة يصعب فصل إحداها عن الأخرى(43). إلا أن ما يقال عن حجم تلك المعضلة أن نظام التصنيف ليس أكثر أهمية من عملية التحليل والبحث والخطوات الموضوعية بكل ما تتضمنه من قواعد وآليات محددة، ووسائل وأساليب تنظيمية، واستخلاص النتائج، وتقديم حلول وتفسيرات مستقبلية، والتي تكرست عبر مراحل التطور التي قطعتها العلوم الاجتماعية، واستفاد منها علم السياسة واستعان بمعظم طرقها ومناهجها والأسس التي يرتكز عليها، وبذلك فإن اعتماد المحلل أو الباحث السياسي على منهج معين لبحث ظاهرة أو حدث أو أزمة والتزامه بقواعده وآلياته تعد الضمانة الوحيدة والأكيدة الموضوعية وعلمية التحليل السياسي(44).
ثانيا: معيار تصنيف مناهج التحليل السياسي
واستناداً إلى ما تقدم، فإن التحليل السياسي بغية وصوله إلى نتائج ومخرجات ناجعة ومؤثرة في عرض الوقائع وتفسير الأحداث والظواهر والأزمات السياسية، فإنه يرتكز على الأسس المنهجية المستحدثة في علم السياسة مع بعض المهارات الفكرية والذهنية والسلوكية التي تمزج بين الدراسات والتحليلات من قبل القائمين بالتحليل، لذلك سوف تتناول أهم المناهج المستخدمة في علم السياسة وفق تصنيفات الباحثين، ومن ثم تتناول أهم المناهج التي تتطابق مع أشكال وأنواع التحليل السياسي وغاياته انطلاقاً من مبدأ أن لكل حدث أو ظاهرة أو مشكلة منهج وأدوات معينة يتم التعامل معها المحلل أو الباحث حسب خبرته، وطبيعة الموضوع، والغاية المستهدفة. ويذهب الباحثون في تحديدهم وتصنيفهم لمناهج التحليل السياسي على وضع اتجاهات ومؤشرات تصنيفية ضمنها مناهج علمية متعددة ومتداخلة  وتتجسد أهم تلك الاتجاهات بـ:
أ. معيار الحداثة: تقسم مناهج التحليل السياسي وفق هذا المعيار إلى:
1.    المناهج التقليدية: والتي ترتكز على تحليل الواقع والاتجاهات المستقبلية بناءً على تداخل الحقائق والقيم في التحليل السياسي، فهو يركز على الطرق المثلى للتوصل إلى صيغة عمل مستقبلية يمكن من خلالها تقديم منظور سياسي أكثر قدرة على التفاعل مع الأحداث والتغيرات. ولعل أبرز المناهج التقليدية تتمثل بالمنهج القانوني والتاريخي والفلسفي والوظيفي(45).
2.    المناهج الحديثة: وهي التي تسمى بالمناهج الثورية نظراً لما أحدثته من تطور في استعمالها للمناهج الأمبريقية التجريبية والاختبارية بدلاً من استعمال المناهج الوصفية، وتتجسد أهمها بالمدرسة السلوكية التي نطقت مختلف العلوم الاجتماعية وعلم الإحصاء والرياضيات وأدوات القياس التحليلي مما جعله وراء بناء النماذج النظرية المعاصرة للتحليل العلمي، وأحدث تغييراً من حيث المادة والمنهج وأدوات التحليل فقد تركز جهد هذا الاتجاه بدراسة النشاطات المنبعثة من الظواهر السياسية المتفاعلة (46) . وهكذا تتركز مادة المعرفة السياسية بدراسة نشاطات السياسة المنبعثة من الظواهر السياسية المتفاعلة، ومن ثم تحليل أنماط تلك النشاطات في الحياة السياسية وفي إطار التمييز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون من خلال أدوات التحقق العقلية والتقنية لتقديم تحليل ذو درجة عالية من الوضوح والدقة. وقد ظل تطبيق مجال المنهجية الحديثة ولاسيما السلوكية محدوداً على جوانب معينة من الحياة السياسية، ولاسيما التي تتوافر فيها المعطيات الكمية التي يمكن قياسها وتقدير حجمها، إضافة إلى تركيزها الشديد على الشعور الإنساني وتجاهل نشاطات المؤسسات وتجاهل النظرية والقيم لأغراض التحليل والبحث التجريبي ولذلك برزت منهجية جديدة سميت ما بعد السلوكية حاولت تجاوز الغلول بالتجريبية والدخول في اتجاه جديد توفيقي يجمع القيم والنتائج التجريبية إدراكاً للتناقضات، ولإمكانية إعطاء تعميمات محايدة علمياً للتحليل السياسي من خلال ربطه بمجموعة الأهداف الاجتماعية العامة وبالتوازي مع البعد النظري للظاهرة السياسية عامة (47). 
 ب. المناهج الكمية والكيفية
تشكل هذه المناهج حقولاً معرفية ذات طبيعة متمايزة، رغم وجود اختلافات وفروق نظرية وعملية، إضافة إلى أن لكل منها أسسه الخاصة التي يستند عليها ويستمد منها وجوده، كما أن لكل منهما أسلوبه المتميز من التحليل والتفكير والمهارة العقلية.فالأغلب على التحليل القائم على الأسس الكمية، إنه يستند على أسس معرفية، رصينة ناتجة من الأرقام والمعادلات والنسب المئوية والجداول والأشكال الرياضية والمخططات البيانية من أجل الوصول إلى النتائج والمدلولات (48). كما أن استخدام التحليل كمياً يحتم وجود معرفة ونظريات ومعلومات حول الموضوع أو الظاهرة محل البحث والدراسة، إلى جانب توفر مقاييس ثابتة وصادقة إحصائياً، وبالتالي يمكن القول أن الاتجاه الكمي في التحليل يتيح كمية من البيانات ذات الإمكانية للتعميم، رغم وجود مثالب التحيز من قبل المحللين والباحثين في أي مرحلة من مراحل التحليل للوصول إلى نتائج محددة (49). أما التحليل الكيفي فهو يسعى إلى العمق في التحليل أكثر من السعي للكمية في البيانات، فهو منهجية بالمشاركة، ويهدف إلى جمع بيانات غير إحصائية عن المشاكل والقضايا، أي هو يعني بالفهم الموضوعي والعميق أكثر من التركيز على الأنماط، فالنتائج المستحصلة تنتج من الملاحظة وتحليل الأحداث والمواقف والصور والوثائق والاتصالات... الخ. أي بمعنى أن التحليل وفق هذا الاتجاه الكيفي يكون ضمن الإطار والسياق الذي تجري فيه الظاهرة دون الحاجة إلى إجراء مقاييس تجريبية، وإنما يتم التحليل من خلال استقراء البيانات والمشاهدات والمقابلات(50).
ج. من حيث القدرة الفعلية للتحليل
1.    المنهج الاستنباطي: هو الاستدلال العقلي المبني على مسلمات أو نظريات يتم استنباط منها ما يتعلق بالجزء أو الظاهرة المراد بحثها. فالاستنباط ينطلق من التجريد ليصل إلى الواقع من خلال اشتقاق القضايا الإجرائية التي تمهد للفروض القابلة للاختيار، أي بمعنى أن نتائج التحليل تتم عبر سلسلة من المقارنة والقياس بين المبدأ العام أو النظرية وبين النتائج المبحوثة، وبالتالي فالمقدمات الصحيحة والمنطقية غالباً ما تؤدي إلى نتائج صحيحة، والعكس صحيح، وبذلك يساعد هذا المنهج على الانتقال إلى عمليات التعميم التي تتحكم بالظواهر(51).
2.    المنهج الاستقرائي: وهو المنهج المبني على ملاحظة جزئيات الظواهر وتعميم هذه النتائج على الظاهرة الكلية، وهو المنهج المبني على أساس الملاحظة المنظمة لجزئيات الظواهر المراد تحليلها، وتعميم النتائج على الظاهرة الكلية بشكل تعميمات، فهو يتبع أسلوب الملاحظة وجمع البيانات واستقراءها للانتقال إلى الحكم على جميع الجزئيات وتعميمها وتحويلها إلى فوائد عامة، ولهذا الاتجاه أساسه الرياضي، حيث يعتمد التنبؤ والتفسير الاختباري من خلال استقراء الواقع بكل جزئياته وصولا الى التعميم لكل الحالات المشابهة، ومن هنا يتم وفق المنظور الحديث دمج هذا المنهج في التحليل السياسي مع الاستنباط في استدلالاته العقلية(52).
د. المقارنة
تشكل المقارنة أحد أهم النشاطات العلمية والفكرية التي استخدمت منذ القدم في جميع العلوم الاجتماعية، وحتى الطبيعية، وتقوم المقارنة في العلوم الاجتماعية مقام التجربة في العلوم الطبيعية، وقد تحقق الكثير من وظائفها(53). وقد استخدمت إسهامات المنهج المقارن للدراسات السياسية في الفكر اليوناني القديم، وامتدت لتشمل القرون الوسطى والحديثة والمعاصرة.كما استخدم المنهج المقارن بعض المفكرين المسلمين مثل ابن خلدون والفارابي(54). وقد احتلت المقارنة مكانتها العلمية ولاسيما في مجال العلوم السياسية وذلك لشموليتها على مستوى التحليل السياسي سواء تعلق الأمر بالوصف وصياغة النماذج أو على مستوى التفسير، فهو منهج يرتكز على منظور تتقاطع فيه حقول معرفية متعددة قائمة على أساس دراسة ظواهر متشابهة أو متناظرة في المجتمع. أو هي تحليل منظم للاختلافات في موضع أو أكثر عبر مجتمعين أو أكثر.ورغم أن التحليل المقارن يجد مبرراته في المتشابهات والاختلافات للخروج بنتائج عامة ومعبرة عن الواقع، فإن العديد من الباحثين مازال يوجه النقد الى النماذج المعرفية للتحليل المقارن في قدرته على إيجاد أسس العلاقة والمتغيرات التي تتحكم في مسار الظاهرة أو الظواهر المتشابهة (55).
هـ .القياس
يقتضي التحليل العلمي للظواهر السياسية استخدام الأدوات والتقنيات التي تتناول البنية الأساسية للموضوع أو الظاهرة بمعرفة علمية للحصول على البيانات الأساسية ومعالجتها علمياً للتوصل إلى نتائج متحقق منها بموضوعية، وأحد تلك الوسائل هو إمكانية إيجاد قياسات صادقة يمكن الاعتماد عليها لقياس الظواهر السياسية مقارنة بما يستخدم في العلوم الطبيعية(56). ويشير القياس بصورة عامة إلى تحديد خصائص الظاهرة المراد قياسها وتقديرها بشرط أن تكون قابلة للملاحظة والقياس، فتكون هناك وسيلة محددة لقياسها. وحيث أن المفاهيم السياسية والاجتماعية مفاهيم عامة ومجردة، فإن أولى الخطوات هي تحديدها بطريقة تجعلها ممكنة للملاحظة وخاضعة للقياس. ومن هنا تنبع أهميتها للتحليل السياسي كونها تعد الأداة الأساسية للربط بين الافتراض النظري والواقع الذي تستهدف تحليله وتفسيره(57). وفي مجال الظواهر السياسية يفهم التحقق أو القدرة على القياس على أنه فقط ما يعرف بالقياسات البينية مثل تلك المستخدمة لقياس عدد السكان والمساحة... الخ، والتي تستخدم في قياس بعض الظواهر ذات الصلة بالاختلافات بين الأنظمة السياسية مثل نسبة المشاركين في الانتخابات، في حين أن الاتجاه الغالب في التحليل السياسي هو الركون إلى القياسات الترتيبية وفقاً لتقديرات (أكثر من – مساوي – أقل  من) التي تساهم في استخدام وسائل قياس كمية قوية للتفاعل مع البيانات، وبالتالي تسهل كثيراً من قيام تحليل نسبي قائم على تدفق المعلومات المتعلقة بالظاهرة الخاضعة للتحليل(58). ويشير هذا النوع من المناهج العلمية للتحليل إلى طبيعة التطورات والانتقالات في بنية علم السياسة ولاسيما ما كرسته الثورة السلوكية من تحولات في مجال إعادة الصياغة العلمية للعلوم السياسية ونقلها من الدراسات المعيارية والشكلية إلى دراسات علمية تجريبية تقر بالتفسير العلمي للظواهر السياسية، والذي بموجبه أصبح النظام السياسي أداة تحليلية تنطبق على العديد من المواضيع والظواهر السياسية المعبرة عن الأشكال المختلفة لوجود وممارسة السلطة من حيث منطلقها الأيديولوجي والقائمين على ممارستها، أو الإطار المؤسساتي المنظم لها.
واستنادا الى ماتقدم ، فان هذا التنوع في المناهج العلمية للتحليل السياسي يدل على طبيعة التطور والانتقالات في بنية علم السياسة، وما شهده من تحولات في مجال اعادة الصياغة العلمية لعلم السياسة ونقله من الدراسات المعيارية والشكلية الى دراسات علمية تجريبية تقر بالتفسير العلمي للظواهر السياسية ، والذي اصبح بموجبه النظام السياسي اداة تحليلية تنطبق على العديد من الظواهر المجتمعية المعبرة عن الاشكال المختلفة لوجود وممارسة السلطة من حيث منطلقها الايديولوجي او الفاعلين او الاطار المؤسساتي المنظم لها. وفي هذا الإطار أصبح التحليل السياسي يوجه اهتماماته للواقع السياسي وشبكة التفاعلات التي تمثل الأسس الشاملة للعمليات السياسية الخاصة بالنظام السياسي داخل المجتمع(59).
 
المحورالثالث: اسهامات الانثروبولوجيا السياسية في التحليل السياسي
اولا: ماهية الانثروبولوجيا السياسية
تعرّف الأنثروبولوجيا بكونها العلم الذي يتجه لدراسة الإنسان من حيث هو كائن عضوي حي، يعيش في مجتمع تسوده نظم وأنساق اجتماعية في ظلّ ثقافة معيّنة ويقوم بأعمال متعددة، ويسلك سلوكاً محدداً وكذلك أيضاً هو العلم الذي يدرس تطور الحياة ويحاول التنبؤ بمستقبل الإنسان معتمداً على تطوره عبر التاريخ الإنساني الطويل، ولذلك تعد الأنثروبولوجيا علماً متطوراً، يدرس الإنسان وسلوكه وأعماله ضمن منظومة مجتمعية . ومع دخول الأنثروبولوجيا مجال القرن العشرين، بأحداثه وتغيّراته العلمية والاجتماعية والسياسية،  طرأت عليها تغيّرات جوهرية في موضوعها ومنهج دراستها، حيث تخلّت عن المنهج النظري وأخذت بالمنهج التطبيقي باعتبارها ظاهرة علميّة، إضافة إلى تحديد علاقة التأثير والتأثّر  بينها وبين منظومة العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى. حيث أصبحت النظرة الشاملة تميّز المنهج الأنثروبولوجي، الذي يتطلّب دراسة أي موضوع  مهما كانت طبيعته وأهدافه، دراسة كليّة متكاملة تحيط بأبعاده المختلفة، وبتلك التفاعلات المتبادلة بين أبعاد هذا الموضوع وجوانب الحياة الأخرى السائدة في المجتمع  (60).
فالانسان بوصفه كائن اجتماعي لا يعيش فى فراغ وانما في تفاعل مستمر مع البيئة المحيطة، لذلك الأنثروبولوجيا السياسية تناول بالدراسة أثر المتغيرات الاجتماعية والحضارية في تشكيل بنية السلطة السياسية ، وتطور أنظمة الحكم في المجتمع ،فالنظم الاجتماعية والعناصر الحضارية من وجهة نظر هذا الميدان (متغيرات)، وأمور السياسة وشؤونها عوامل تابعة تتأثر بالعوامل الاجتماعية وتتغير بتغيراتها ، وعلى هذا فإن أي فهم دقيق للنظم والمؤسسات السياسية يتطلب تحليلاً لمرتكزاتها المجتمعية ، ورصداً لعناصر التغير في المجتمع. وتتصدى الأنثروبولوجيا السياسية لموضوعات كثيرة وهامة، وتستخدم مفاهيم تحليلية تترابط مع منظومة العلوم الاجتماعية الأخرى، وبخاصة مع مفاهيم علوم الاجتماع والسياسة والتاريخ. فهي اداة تحليل ودراسة شتى المؤسسات والممارسات التي تحقق حكم الناس فضلا على انها اداة لتحليل نظم التفكير والرموز التي تستند عليها (61).   
الأنثروبولوجيا السياسية هي احدى الفئات الفرعية التي أنتجتها الأنثروبولوجيا الكلاسيكية في فترة ما بعد الحرب ويرجع تأسيس الأنثروبولوجيا السياسية، باعتبارها ميدانا للتحليل إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية، حيث أولت أهمية كبيرة لعوامل التحول في العلوم الاجتماعية والسياسية ، فكان ميدان دراستها الاساس هو القارة الافريقية في محاولة لفهم مصادر القوة والحكم خارج الدولة وسيادتها ولدراسة قضايا وارتباطات القرابة والنظم السياسية الإفريقية. لقد استهدفت الأنثروبولوجيا السياسية وضع مساحات جزئية للتحليل ولكشف وتحقيق معرفة متقدمة في الحقل السياسي لتتناول بالتحليل علاقة السلطة بالبنى الاساسية التي تقدم لها ركيزتها الاولى وبنماذج تثبت ان المجتمعات الانسانية تنتج شأنا سياسيا ليس من ناحية المبادى التي تحكم تنظيمها ولكن تبعا للممارسات والاستراتيجيات التي تنتجها هذه المجتمعات(62) . ومرد ذلك التركيز على النماذج الجزئية في التحليل هو لتجاوز الاخفاق في تقديم نظرية عامة وشاملة تفسر شتى قطاعات المجتمع ، ليتم الاهتمام بدلا عن ذلك تقديم نماذج نظرية وجزئية تعنى بقطاعات معينة ومحددة حتى اصبحت هذه النماذج والنظريات الجزئية هي السمة الغالبة في التحليل السياسي المعاصر(63).   وهكذا برزت الأنثروبولوجييا علماً يساعد في تحقيق امرين  اساسيين في المجتمعات(64)  :
1.    حل المشكلات الناتجة عن الادارة والحكم في المجتمعات.
2.    معالجة المشكلات الناتجة عن التغيير والتحديث الحضاري السريع في هذه المجتمعات والمساعدة في عملية التكيف .
 ثانيا: مناهج التحليل في الأنثروبولوجيا السياسية
اكتسبت مناهج التحليل في الأنثروبولوجيا السياسية بوصفها اداة اكتشاف وتحليل مختلف المؤسسات والممارسات التي تحكم الناس فضلا عن انها اداة اكتشاف وتحليل نظم تفكيرهم ، فاهتمام الأنثروبولوجيا السياسية بوصف الأنظمة السياسية وتحليلها على مستوى البُنى، والعمليات، أو التمثيل، والتفاعل، استهدف اصالة علمية وموضوعا علميا محددا يرتكز على تبني اسهامات الابحاث الميدانية والفاعلية العلمية في تحليل ومعرفة الحقل السياسي بصفة عامة (65). وتأسيساً على ما تقدمّ تعددت وتنوّعت مناهج التحليل الأنثربولوجيا المعاصر، مما ادى الى زيادة المشتغلين في هذا الميدان من الباحثين في العالم وهذا ما يعطي للانثروبولوجيا المعاصرة دورا  هاما في القضايا والدراسات التي تتبناها الأنثروبولوجيا في المجال السياسي . ورغم تنوع تلك المناهج سوف تركز دراستنا على اكثرها شيوعا في التحليل السياسي:  
 أ‌.       منهج التحليل  البنيوي 
     يهدف التحليل البنيوي للنظام السياسي وفقا للانثروبولوجيين الى اكتشاف القواعد الكامنة أو المبادئ الأساسية التي تحكمه فالبنية السياسية هي الطرق المنظمة التي ينجز المواطنون نشاطاتهم السياسية من طريقها ، وعندما ينطلقون في تحليلهم للسياسي من نماذج بنيوية بوصفها أداة للمعرفة تمر المقاربة البنيوية من خلال تحليل المبادئ البنيوية المكتشفة في الميدان الاجتماعي التي ينبغي فيها استبعاد القواعد الكامنة وراء السلوكيات المختلفة ، وقد مثّل هذا التيار الأنثربولوجيون الذين يحللون السياسة من زاوية العلاقات الرسمية، حيث يأخذون بعين الاعتبار كل علاقات القوة بين المجموعات. اذ تشكل البنيات السياسية نظما مجردة كما هي مصاغة من طرف أعضاء المجتمع أو أعيد بناؤها من قبل الأنثروبولوجيا(66).  تستمد هذه النظرية أصولها الفكرية العامة من آراء مجموعة من علماء الاجتماع التقليديين والمعاصرين الغربيين ،حيث اهتمت بدراسة كيفية الحفاظ المجتمعات على الاستقرار الداخلي والبقاء عبر الزمن ،وتفسير التماسك الاجتماعي والاستقرار(67).
يرتكز التحليل البنيوي على مفهوم البنية بوصفها اداة التحليل للنظام المتكون من أجزاء مترابطة وبالتالي فان هدف التحليل البنيوي يتمثل بالكشف عن موضع وحجم كل جزء ومدى ترابطه مع الاجزاء الاخرى ،اي بمعنى ان التحليل البنيوي يهتم بمدى ترابط الاجزاء في النظام السياسي واداءها لوظائفها اكثر من وجودها ، وذلك لان البنية عبارة عن نظام له قانون يحكم بين تلك الاجزاء وبالتالي تسهم في عملية التاثير والتاثر التي يمكن من خلال تفسير وتحليل الحدث او الظواهر المتعلقة بالنظام(68). ورغم أهمية هذا النوذج في تحليل نمط الترابط والعلاقات بين الاجزاء فان الأهمية الاكبر تتجسد بتحليل البنية السياسية في الاطار الاوسع للبنى الاجتماعية من خلال الترابط للبنى الكلية للمجتمع ، وبالتالي يفتح التحليل البنيوي افاق جديدة  للدراسات العلمية حيث يمكننا هذا التحليل الكشف عن الكيفية التي تمارس بها مظاهر السلطة بين الانظمة المختلفة رغم تشابه المؤسسات من خلال تحليل البنية ودور البيئة ونشاطات الافراد والاوضاع الجغرافية والاقتصادية والثقافية(69) .
ب‌.  منهج التحليل الوظيفي
تشير الوظيفة إلى الإسهامات التي تقدمها الجماعة إلى أعضائها أو الإسهامات الجزئية للكل، فضمن محاكاة لمفهوم الوظيفة في علم الاحياء المنقول إلى العلوم الاجتماعية بوصفها اداة تحليلية ، أخذ مفهوم الوظيفة يعني مايؤديه الافراد في مجتمع او تنظيم معين من ادوار بحكم الموقع ، وبالتالي يرتبط التحليل بالكشف عن الادوار التي تؤدي الى استمرار واستقرار المجموع أو التنظيم وفق تحليل وظيفي مبني على منظورا مفاهيمي لواقع النظام الاجتماعي عامة، والسياسي خاصة(70).  يقوم المدخل الوظيفي على استخدام نظرة إجمالية في تناول الأبنية الاجتماعية كمنظومة كاملة، لا كمجتمعات من الأفراد، أو العناصر أو الوحدات، كون النظام السياسي يعتبر ذلك النسق من التفاعلات التي توجد في المجتمع من أجل تحقيق وظائف التكامل والتكيف داخليا، والشامل لكافة التفاعلات السياسية التي تتجسد في هيئة وحدات بنائية تؤدي كل منها أدوارًا وأنشطة معينة، لا توجد في معزل عن بعضها البعض، في إطار ارتباط وتأثير متبادل بينها. وتتحدد وظائف النظام بطبيعة الحال في ضوء الأهداف و الغايات التي يسعى إلى تحقيقها ، كما يتوقف نجاح هذه الوظيفة أو تلك في تحقيق الأهداف التي ينشدها النظام على حجم ونوع وكفاءة القدرات التي يتحلى بها نفسه ، والبنى والاليات التي يعتمد عليها، فالوظيفة تعني النتائج الموضوعية التي يمكن ملاحظتها ، ولكن مع توافر المؤشرات الموضوعية الدالة عليها.
وبذلك تعني الوظيفة السياسية، الدور الذي يلعبه أو يؤديه النظام ومؤسساته في البناء المجتمعي والذي يفسره البعض بأنه محاولة التعرف على مدى التشابك والتفاعل القائمين بين النظم التي تؤلف حياة المجتمع ككل، ونصيب كل نظام منها في الحفاظ على تماس هذا المجتمع واستمراريته ووحدته وكيانه، وبذلك يكون التحليل الوظيفي أداة تحليلية أساسية للباحثين من أجل دراسة الاشكال المختلفة للتفاعلات والترابطات السياسية(71) .
ج. منهج التحليل النسقي
يرتكز التحليل النسقي إلى مفهومي (النسق والإتزان)  وهما مفهومان منقولان عن علم الفيزياء، ولاحقا إلى مجال العلوم الاجتماعية ثم متأخراً في التحليل السياسي منذ أوائل القرن العشرين فصاعداً. فقد وجدت النسقيون مجالاً خصباً للتطيبق في التحلیل السياسي، حیث يذهب النسقيون إلى اعتبار الظواهر السياسية جزء من النسق الاجتماعي .اذ يوكد المنهج النسقي على أن العلاقة ما بین النسق السياسي والنسق الاجتماعي العام هي التي تساعد الأول على القيام بوظائف التكیف والضبط والتوزيع بما يحول دون اختلال النسق، كما یبین دور البیئة الاجتماعية في عملة اتخاذ القرار السياسي(72). لقد انطلق `ديفيد ايستون` من النسق او النظام كوحدة مستقلة تنظم ذاتها تحدث داخلها جميع الأنشطة السياسية (فالنظام السياسي هو تلك الظواهر الخاصة بالحكم وتنظيمه، الجماعة السياسية، والسلوك السياسي).  وبذلك فان النسق السياسي هو تعبير عن اداة من ادوات التحليل السياسي لبيان حقيقة واقع سياسي معين او الحياة سياسية بمجملها من خلال تبنى مفهومي النسق والاتزان وذلك لان شتى عناصر الحياة السياسية التي تنتظم في نسق سياسي هي عناصر متساندة وظيفيا وكذلك هي متفاعلة بما يجعل الكل متزن ومستقر، وهنا يرى (ايستن)  ان القرارات السياسية وتنفيذها تتم وسط وحدات اجتماعية متنوعة جدا ، ولكي يفعل القرار السياسي فعله يجب صياغة الطلبات واختزال تناقضاتها ووجود عرف او تشريع والوسائل الادارية لتنفيذ القرار ووسائل دعم السلطة(73).  ومن هنا يوكد التحليل النسقي على المعطيات الانثروبولجية عندما يعني بوضع تصور لمجموعة من النشاطات والعلاقات السياسية المتساندة والمتفاعلة مع الانساق المجتمعية الاخرى الممثلة للبنية الكلية(74).
ثالثا : ابعاد التحليل في الأنثروبولوجيا السياسية
من خلال ماتقدم يتبين ان الاسهامات التي اخذت تجسدها الأنثروبولوجيا السياسية ضمن البناء الاجتماعي للانسان من حيث التحليل والتفسير والوصف ، تاخذ ابعادها في الانتقال من الاهتمام بحالة التضامن الاجتماعي ووحدة المجتمع وبنيته الى الاهتمام بتحليل الظواهر المؤثرة بحالة التغيير التي تجري داخل النسق او النظام . فتناول طريقة تفاعل علاقة السلطة بالبنى الاساسية التي يقدم لها ركيزتها الاولى وبنماذج التدرج والتخصص ومن خلال ملائمة تحليل البنية مع نسق الواقع المعني ووظائفه ، فانه يتم التركيز على دينامية السلطة والياتها واشكال ووسائل اتخاذ القرار وكذلك الكشف عن حالات الصراع والمنافسة بين جميع القوى المجتمعية. 
ومن خلال الفعل التطبيقي والميداني الذي نهجته الأنثروبولوجيا السياسية في تحليلها قد ولد فهم لعمليات الاستقرار والتغييرات وامكانيات التحكم بالمؤسسات والعمليات الاجتماعية والسياسية ومعرفة المشكلات والازمات التي تعتري وظائف البنى، ومن خلال استخدام الادوات والنماذج التحليلية  التي نهجت عليها الأنثروبولوجيا السياسية يتم تقرير امكانية تحريك النشاطات والافعال وتحديد المتضادات او المعارضة التي تنتج عن التحولات في السلطة السياسية اثاء عملها ومن ثم تقديم الحلول للمشكلات المتعلقة بالافراد او المؤسسات والتي من خلالها يحافظ المجتمع على استقراره وتطوره . كما يشكل تحليل دائرة العنف او الصراعات داخل البنية السياسية التي تتالف منجانب رسمي او غير رسمي احد اهم اهتمامات الأنثروبولوجيا السياسية ، فمن خلال تحليل او معرفة الكيفية او اسباب استعمال القوة في اطار البنية الاجتماعية سواء داخل البنى او العمليات ،نتمكن من فهم طبيعة وسلوك النظام السياسي ، وكذلك من خلال تحليل الوسائل والاليات التي يتبعها النظام السياسي في عملية التأثير يمكن تصنيف تلك النظم ، بحيث كلما يوشر على النسق او النظام السياسي انغلاقا سياسيا وتفاقم في مستويات العنف ولا يستجيب للمطالب الاجتماعية أو يتم احتكار السلطة من قبل جماعات معينة  يكون النظام السياسي ضمن النظم الاقصائية أو الانساق المضطربة أو العاجزة التي تولد تفجر بالعنف الاجتماعي(75).
فلا ريب إن التغيرات والتحولات الاجتماعية الناتجة عن انغلاق البنى السياسية أو غياب الديمقراطية الناضجة إنما تعني حركة تحول تطول أسس تنظيمات المجتمع، ويترتب على ذلك التحول تعديلات في انساق وعلاقات  البناء الاجتماعي وتبدلات في مجمل النظم والعلاقات والتفعلات الاجتماعية، بيد إن هذا التحول أو التغير قد يتخذ مسارات مختلفة ومتباينة. وهذا مايعطي التحليل الانثروبولوجي في الجانب السياسي دوره الانساني ويعطي القضايا الانسانية كذلك معنى عام ويجعلها قابلة للتطبيق في المجتمعات السياسية من خلال تشخيص وتفسير علمي متخصص لوظائف وبنى النظم السياسية والظواهر والاحداث السياسية المؤثرة فيه(76) . 
 
الخاتمة
     مـن خــلال ماتـم عرضه يـمـكن القــول ختـاماً، إن مفـهوم التـحليل السيـاسي الذي سبق تنــاوله     حاولنا فيه ابتداءً ، تقديم رؤية منهجية علمية لتحليل الظاهرة السياسية بشكل عام، بغية ادراك لماهية تأثيراتها والكشف عن معطياتها في المجتمعات الانسانية ومن ثم تناول مناهج التحليل من حيث تنوعها وتطورها ودورها في التقييم الفعلي للنظم السياسية على اختلاف محيطها المجتمعي، من خلال اعتماد النماذج التحليلية للانثروبولوجيا في المجال السياسي بوصفها تعنى بدراسة جانب من جوانب التنظيم الشامل للمجتمع ،كذلك في فهم الكثير من التحولات السياسية الحالية أو المستقبلية. 
   لقد ارتبط تطور التحليل السياسي بتطور طرق البحث من مرحلة إلى أخرى، فمن المرحلة التقليدية التي تميز فيها البحث بطرق، ووحدات تحليل أضفت عليه الطابع الشكلي، التأملي، الوصفي، الكيفي، إلى المرحلة السلوكية والتي تميز فيها البحث بفصل الواقع عن القيم، الموضوعية، تطبيق المنهج الكمي والامبريقي، والمقارنة والتركيز على الوظائف والأبنية والجماعات الرسمية وغير الرسمية ، ومن ثم مرحلة ما بعد السلوكية التي تميز فيها البحث بتطبيق المناهج الكمية والكيفية، والمعيارية الموجهة لخدمة الفرد ومعالجة مشاكل المجتمع . 
 ان الوصول إلى معرفة وتحليل علمي عبر هذه المراحل ضمن هذه المداخل والأطر، والتطرق إلى حدود هذه المعرفة ومصداقيتها وكيفية التحقق منها ودورها في بناء تصورات تعين العقل الإنساني على فهم الواقع وحسن إدراكه وكذلك إدراك الاختلاف والتنوع في المجتمعات البشرية والخصائص الذاتية للنظم والشعوب ومعرفة أنماط العلاقات والتفاعلات والمعايير والقيم السائدة في كل مجتمع قد الزم إدراج الأنثروبولوجيا من قبل باحثي ومنظري علم السياسة في تحليلهم  للنظم السياسية في اطار الممارسة الاجتماعية ، ان تطرح حاليا بصورة ملحة وهذا نابع من اهتمام الأنثروبولوجيا بدارسة الانسان بكونه كائن اجتماعي يؤثر ويتأثر في المجتمع واسسه الثقافية وطابعه الحضاري ، وكذلك على طبيعة التأثيرات المتبادلة بين النظام السياسي وبين الأفراد داخل المجتمع، وبين النظام السياسي والنظم الاجتماعية الأخرى داخل البناء الاجتماعي وبين النظام السياسي وغيره من النظم السياسية داخل الأبنية الاجتماعية الأخرى . فالسلطة السياسية كما تحتاج لأدوات في بنائها للنظام وفي تنظيم العلاقات الإنسانية الإجتماعية بوجود حاكم ومحكوم بغض النظر عن الشكل والغاية من الحكم. فان مدى تأثر النظام السياسي بالنظم الاجتماعية الأخرى وقدرته على التأثير عليها، قد مكن الأنثروبولوجيا السياسية في التحليل السياسي لاكتشاف ودراسة  مختلف الممارسات التي تحكم عملية التفاعل داخل المجتمع وهذا ما اعطاها قيمة علمية في مجال التحليل السياسي .
 
 قائمة الهوامش المراجع
1.      ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط ، 1997 ، المجلد الثاني، ص 143.
2.      جوليان براون وجورج يول، تحليل الخطاب، ترجمة محمد لطفي ومنير التريكي، جامعة الملك سعود، الرياض، ط1 ، 1997 ، ص 54 .
3.      وليد الحيالي ، الاتجاهات المعاصرة في التحليل المالي، ، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع ، عمان، ط1 ، 2004، ص 21.  
4.      عبد العزيز صقر، التحليل السياسي ومفهوم الإستراتيجية ( دراسة في تأصيل المفهوم والمناهج ) التقرير الاستراتيجي لمجلة البيان ، العدد الثالث 2006 ، ص 74.
5.      المصدر نفسه ، ص 75 .
6.      James A.Robinson, crisis,in IESS. V168, p5 
7.      روبرت أ.دال ، التحليل السياسي الحديث ، ترجمة د.علاء ابو زيد، مراجعة علي الدين هلال ، مركز الاهرام للترجمة والنشر ، القاهرة، ،ط 5، ص 7 .
8.      محمد شلبي ، المنهجية في التحليل السياسي-المفاهيم المناهج الاقترابات والادوات ،الجزائر، ط1، 1997، ص 14 .
9.      صادق ألاسود ، علم الاجتماع السياسي أسسه وابعاده ،مطبعة جامعه بغداد، العراق ،ط1، 1990،  ص 27 .
10.  ([1]) Level of Analysis and Unit of Analysis: A case for Distinction "Millennium": Journal of International Studies, 22, 88-77: (1) Yurdusey, A. Nuri (1993).  
11.   محمد شلبي ، المصدر السابق ، ص20.
12.   عبد العزيز صقر ، المصدر السابق، ص20.
13.  صادق الأسود، المصدر السابق، ص11.
14.  Barny Buzan. The level of analysis problem in the international relations. Reconsidered  Kenboth and  Smith (eds). International Relations, Theory, Pennsylvania State University Press, 1996, p. 199. 
15.  ابن منظور، لسان العرب، تصحيح: محمد أمين عبد الوهاب ومحمد الصادق العبدي، دار إحياء التاريخ العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط1، 1996، مجلد 5، ص84.
16.  جان فرانسوا دورتيه، معجم العلوم الإنسانية، ترجمة: د. جورج كتورة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، هيئة أبو ظبي (مشروع كلمة)، أبو ظبي، ط1، 2009، ص453.
17.  ميجان الرويلي وسعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2002، ص78.
18.  ([1]) John, R. Shermerhorn, "Management", John Wiley & Sons, New York, 1999, p. 46
19.  نجم عبود نجم، مدخل إلى إدارة العمليات، دار المناهج للنشر والتوزيع، عمان، 2007، ص23
20.  نادرة أيوب، نظرية القرارات الإدارية، دار زهران، عمان، 1997، ص177.
21.   نجم عبود نجم، مصدر سابق، ص25
22.  ابن منظور، لسان العرب، مادة (فسر)، ج5، ص555. 
23.  سالم يفوت، تقديم التفسير والتأويل في العلم، منشورات كلية الآداب، الرباط، ط1، 1997، ص9.
24.   المصدر نفسه، ص11.
25.  عصام زيدان، مبادئ التحليل السياسي-المعارف النظرية والتطبيقات العملية، مراجعة: هشام مصطفى، نهضة أمة للدراسات والنشر، الإسكندرية، ط1، 2009، ص9.
26.  رائد حسين عباس، حدود الرأي العلمي في بحوث الإعلام الجماهيري-دراسة استطلاعية، مجلة الباحث الإعلامي، العدد 9-10، حزيران-أيلول، 2010، ص28.
27.  صادق الأسود، المصدر السابق، ص52.
28.   علي عبد الرزاق وآخرون، مناهج البحث الاجتماعي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط1، 1992، ص8.
29.   عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1963، ص5.
30.   روجر هيكوك وآخرون، البحث النقدي في العلوم الاجتماعية: مدخلات شرقية-غربية عابرة للاختصاصات، ترجمة: أليز أغزريان، معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية، جامعة بيرزيت ومعهد علم الإنسان الاجتماعي، الأكاديمية النمساوية للعلوم وفلسطين، ط1، 2011، ص77.                                                                                           * يطلق السلوكيين تعبير علماء السياسة على أنفسهم ليقتربوا من علماء الطبيعة بعد الحرب العالمية الثانية كونهم جمع تقاليد البحث النظري في أوروبا وأعطوا لها نزعة علمية في دراسة السياسة. للتفاصيل ينظر: عادل فتحي ثابت، النظرية السياسية المعاصرة، دراسة في النماذج والنظريات التي قدمت لفهم وتحليل عالم السياسة ،الدار الجامعية ، الاسكندرية – مصر ، 2007، ص123.
31.  محمد أحمد مفتي، المنهجية السياسية الغربية-تحليل نقدي، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة تكريت، المجلد 15، العدد 2، صيف 1997، ص76.
32.  المصدر نفسه، ص66
33.  جون س. دريزك، الثورات المعرفية والتحولات الرئيسية في علم السياسة، ترجمة: عادل زقزاق، (انترنيت).
34.  روبرت دال، التحليل السياسي الحديث، ترجمة علا ابو زيد ، مراجعة دكتور علي الدين هلال ، مركز الاهرام للنشر والترجمة ، القاهرة ، ط5، ص187.
35.  بالخضر طيفور، أبعاد التموجات الابتسيمولوجية على دينامية البناء والتقليل المعرفي في حقل السياسة المقارنة، مذكرة ماجستير، كلية الحقوق والعلوم السياسية-جامعة الطاهر مولاي سعيدة، الجزائر، 2013، ص10.
36.  محمد وقيدي ، تحليل الظاهرة السياسية، الأوان نت، الخميس 15 كانون أول 2016، ينظر الموقع: http:// www.alawan.org.
37.  المصدر نفسه.
38.  حوبة عبد القادر، مناهج العلوم القانونية، المركز الجامعي بالوادي، معهد العلوم القانونية والإدارية، القاهرة، 2010، ص58.
39.  محمد وقيدي، المصدر السابق، ص4.
40.  روبرت دال، المصدر السابق، ص167.
41.  حورية عبد القادر، المصدر السابق، ص58.
42.  صادق الأسود، المصدر السابق ، ص27.
43.  خضر خضر، مفاهيم أساسية في علم السياسة، المؤسسة الحديثة للكتاب، ط5، طرابلس، 2014، ص50.
44.  علي عباس مراد، إشكالية المنهجية في العلوم الإنسانية-المنهج البنيوي أنموذجاً مقترحاً، مجلة العلوم السياسية، جامعة بغداد، 2010، ص79.
45.  المصدر نفسه ،ص81.
46.  المصدر نفسه، ص81.
47.   صادق الأسود، المصدر السابق ، ص29.
48.  شارلين هس، وباتريشا ليفي، البحوث الكيفية في العلوم الاجتماعية، ترجمة: هناء الجوهري، المركز القومي للترجمة، ط1، القاهرة، 2011، ص40.
49.  عادل محمد ريان، استخدام المدخلين الكيفي والكمي في البحث-دراسة استطلاعية لواقع أدبيات الإدارة العربية، ضمن بحوث المؤتمر العربي الثالث (البحوث الإدارية والنشر)، القاهرة، مايو 2003، ص7.
50.  المصدر نفسه، ص3.
51.  محمد طه بدوي، المنهج في علم السياسة، منشورات كلية التجارة، الإسكندرية، 1979، ص118.
52.  محمد شلبي، المصدر السابق، ص25.
53.  المصدر نفسه، ص70.
54.   امين بن بيلاوي، مشكلة بناء الدولة ، دراسة ابستمولوجية وفق ادبيات السياسة المقارنة ، رسالة ماجستير غير منشورة ، جامعة تلمسان، كلية الحقوق والعلوم السياسية، 2014، ص97.
55.  عبد الناصر جندلي، تقنيات ومناهج البحث في العلوم السياسية والاجتماعية ، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر ، 2005،ص 170.
56.  محمد شلبي، المصدر السابق ، ص55.
57.  بلخضر طيفور، المصدر السابق ، ص45.
58.   روبرت دال، المصدر السابق ،  ص184.
59.  محمد أمين بن جيلاوي، مشكلة بناء الدولة دراسة إبستيوولوجية وفق أدبيات السياسة المقارنة ، رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية الحقوق والعلوم السياسية جامعة أبي بكر بلقايد، الجزائر ، ص110.
60.  عيسى الشمّاس، مــدخـل إلـى عـلم الإنسـان (الأنثروبولوجيا ) ،  منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، 2004 ، ص 8 .
61.  جورج بالاندي ، الانتروبولوجيا السياسية ، مجد الموسسة الجامعية للدراسات وللنشر والتوزيع ، بيروت، ط 2 ،2007، ص9.
62.  المصدر نفسه ، ص 14.
63.  عادل فتحي ثابت، النظرية السياسية المعاصرة، المصدر السابق، ص11.
64.  عيسى الشمّاس ، المصدر السابق ، ص 124.
65.  جورج بالاندي ، المصدر السابق ، ص 29 .
66.  ليز بيلون ، السياسي في الأنثروبولوجيا نحو أنثروبولوجيا سياسية ، ترجمة: مولود أمغار ، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والابحاث ، المملكة المغربية –الرباط، 2018، ص14.
67.  حسن عماد مكاري، ليلى حسين السيد، الاتصال ونظرياته المعاصرة،الدار المصرية اللبنانية،القاهرة، 2006 ، ص 124
68.  محمد بن عبد الله بن صالح ، البنيوية النشاة والمفهوم ، مجلة الاندلس للعلوم الانسانية والاجتماعية ،جامعة الاندلس للعلوم، العدد 15 ، المجلد 16 ، ايلول 2017 ، ص 246.
69.  عادل فتحي ثابت، النظرية السياسية المعاصرة –دراسة في النماذج والنظريات التيقدمت لتحليل وفهم عالم السياسة ،الدار الجامعية ، الاسكندرية –مصر ، 2007، ص 164.
70.  المصدر نفسه ، ص181.
71.  علا زكي داوود ، دور النظرية الوظيفية في تحليل سياسات الجامعة العربية للفترة 1945 – 2014 ، رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة الى كلية كلية الاداب والعلوم جامعة الشرق الاوسط ،2015 ، ص24 .
72.  لؤي عبد الفتاح و زين العابدين حمزاوي ، الوجيز في مناهج البحث العلمي وتقنياته ، مكتبة القادسية،  وجدة/المغرب ، 2012، ص13.
73.  جورج بالاندي ، المصدر السابق ، ص 48.
74.  عادل فتحي ثابت ، المصدر السابق ، ص210.
75.  سيد فارس ، الحركات الاجتماعية الجديدة والعنف بحث في الانثروبولوجيا السياسية ،حوليات اداب عين شمس ، جامعة عين شمس ، المجلد 45 ، عدد سبتمبر 2017،  ص 160.
76.  جورج بالاندي ، المصدر السابق ، ص 234.
 

 

 

 
2024-08-15 11:03 PM124